الاقتباس والتفسير ووجهة النظر
يختلف الناس في قراءتهم للنص. ليس هذا فقط، بل يقتبسون ما يرونه يوائم وجهة نظرهم.
من الصعوبة بمكان أن نتفق على تفسير واحد لذات النص. ومن الصعوبة بمكان أن نتفق على اقتباس واحد ودلالاته.
وحسنا فعل العرب عندما وصفوا تفسير النصوص حتى التي يرونها مقدسة "اجتهادا" بيد أنني – وحسب علمي المتواضع – لم أمر على موقف محدد في التراث العربي والإسلامي حول الاقتباس.
العرب بارعون في الإسناد. والإسناد كمفهوم يتناوله أساتذة وعلماء الشريعة الإسلامية. وباختصار شديد معناه أنك تسند تفسيرك إلى نص قرآني أو أحاديث النبي الكريم.
بيد أنه ليس هناك اختلافات تذكر بين الاقتباس والإسناد اللهم إلا إن حصرنا مفهوم الإسناد في العلوم الدينية في اللغة العربية.
في اللغة الإنجليزية الفرق بينهما طفيف إلى درجة أن كلمة الاقتباس quotation تتبادل الأدوار مع كلمة الإسناد attribution.
والاقتباس أنواع شتى لن أدخل في صلبها. قد أعرج على الموضوع مستقبلا.
والعرب كانت تقتبس وتسند النصوص إلى أصحابها بطرائق وأساليب علمية رصينة فاقت ما لدى الشعوب الأخرى في حينه.
وأشهر فعل في اللغة العربية الذي استخدمه العرب من أجل الاقتباس والإسناد هو "قال". وكل اقتباس وإسناد يحتاج إلى فعل القول "قال" وما يرادفه أو ما يؤدي وظيفته.
لماذا اختار العرب الفعل "قال" دون أفعال أخرى كثيرة تبلغ العشرات؟
لأن أفعال الاقتباس أيضا تعبر عن وجهة نظر. فهناك فرق شاسع في الأثر الذي نتركه في المتلقي إن قلنا "زجر" بدلا من "قال".
"قال" فعل بريء ونزيه ومحايد. ويرد ذكره في أغلب نصوص الاقتباس والإسناد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
وتأثر العرب بأسلوب القرآن وجعلوا من فعل القول "قال" الفعل السائد في أغلب اقتباساتهم. وفي بعض النصوص التراثية، يرد الفعل "قال" كمؤشر للدخول إلى عالم الاقتباس بأشكاله وأنماطه المختلفة أكثر من عشر مرات.
كل "قال" لها فاعل. الفاعل هو "القائل" الذي يقتبس منه الكاتب ويسند النص إليه.
هذا الطراز اللغوي من الاقتباس كان طفرة في الدايولوجية أو حوارية اللغة dialogism. اللغة لها خاصية حوارية عجيبة. والحوارية هذه بادية للعيان حتى على مستوى مفردة واحدة. واللغة منغمسة في المجتمع والمجتمع منغمس في اللغة.
كان العرب عندئذ، في غياب الطباعة الحديثة وفي غياب الترقيم punctuation، بحاجة إلى هذا النوع من الاقتباس الذي تتسلسل فيه المصادر (الأشخاص) وكل واحد منها يلحقه الفعل "قال" نزولا إلى أقرب مصدر من حيث الزمان والمكان.
وما يشدني عند قراءتي للتراث في فترات ازدهار الحضارة العربية والإسلامية هو أن المفكرين العرب عندئذ كانوا يشغلون عقولهم ويفكرون مليا دون الكثير من الخشية والوجل والخوف الذي ينتاب المفكرين المعاصرين اليوم.
الطريقة التي وضع فيها المفكرون العرب عندئذ فعل القول "قال" والتسلسل الزماني للمصادر تحت مشرحة النقد لها الكثير من الشبه بعلم التحليل النقدي للخطاب Critical Discourse Analysis CDA في عصرنا هذا. ووضع المفكرون العرب أسسا لتقيم النقل (الاقتباس) الشفهي وقالوا، إن التباعد الزمني والمكاني بين الكاتب والمصدر الشفهي يزيد من إمكانية التلاعب بالنص عند الاقتباس.
بمعنى آخر أن الاقتباس في هذه الحالة يفقد كثيرا من مصداقيته ويقترب من تخوم وجهة نظر صاحبه وناقله.
وإن علمنا أن هناك أكثر من ناقل واحد للنص نفسه نكون نحن أمام عدة وجهات نظر.
والتفسير ما هو إلا اقتباس تعبيري للنص الأصلي. في الاقتباس التعبيري، الذي يختلف عن الاقتباس الحرفي المباشر، نستعين بملكتنا اللغوية لإجراء تحوير للتراكيب اللغوية في النص الأصلي وتحوير صوته.
بمعنى آخر بدلا من أن ينطق النص، نحن ننطق – صوتنا يتغلب على الصوت الأصلي للنص ويحدث تغيرا وتحويرا في الدايولوجية والحوارية dialogism التي هي واحدة من أهم خصائص الخطاب واللغة.
كل مفسر يستعين بالاقتباس التعبيري. والاقتباس التعبيري ما هو إلا وجهة نظر.
المفسر لا ينتقي النص وحسب. إنه ينتقي التفسير الذي يسبغه هو عليه.
وهذا أظن يمنحنا الحق أن نفسر لأنفسنا دون الإتكاء على الآخرين.
بمعنى آخر إن كان للآخر وجهة نظر، لماذا لا يكون لي وجهة نظر أيضا لأننا نحن الاثنين نستند في وجهة نظرنا إلى النص الأصلي.
النص الأصلي لا يتبدل تبديلا. تفسيرنا أو اقتباسنا التعبيري يتغير ويتبدل بتبدل الزمان والمكان والسلطة والأشخاص لأنه وجهة نظر.
وإن كان الوضع كذلك، لماذا نسمح للمفسرين، أصحاب الاقتباس التعبيري، السيطرة علينا بهذا الشكل؟