التطوع .. ووقاية الأطفال من الفساد
نتساءل أحيانا، هل تكفي التربية الجيدة – أو ما نظنه كذلك - في حماية أطفالنا من الوقوع في مواطن الفساد والإنحراف؟ تصبح الإجابة أصعب إذا تذكرنا أن التربية داخل المنزل لا تشكل إلا جزءا بسيطا من العوامل التي تتراكم على فترات طويلة وفي ظروف مختلفة لتصنع سلوك الطفل - طفلا ثم شابا فيما بعد – إذ هناك العديد من العناصر الخارجية التي يصعب التحكم فيها. ومما يجعل الأمور أصعب من أن نتخيل أننا نرى اليوم بعض هذه العناصر التي تعمل ضد المبادئ التي نربي عليها أبناءنا بطريقة مباشرة، سواء ما يحدث مثلا في بعض الأوساط الرياضية أو الألعاب التقنية والأماكن العامة.
يتطلب الأمر بذل المزيد من الجهد التربوي المركز. والحقيقة، أنه لا تكمن الأهمية هنا في حماية مستقبل الطفل الشخصي ومساعدته على اتقاء مغريات الخروج عن السلوك القويم فقط، بل إن هذا الجهد التربوي الإضافي مطلب مهم لحماية المجتمع ككل وتنفيذ الرسالة المشتركة ضد الفساد. مناعة المجتمع المستقبلية قائمة على مناعة الأطفال اليوم وما يغرز فيهم من محفزات لتقوية هذه المناعة.
إضافة إلى النصائح التربوية التقليدية كتعزيز الوازع الأخلاقي وتأكيد أهمية المودة والقرب في العلاقات الأسرية والحرص على اختيار الأصدقاء والشفافية مع الأبناء، إلا أن الواقع المتغير يحتم علينا أن نستخدم أساليب غير تقليدية تقوي من مناعة الأبناء ضد الفساد. إن ما نبحث عنه هو تلك الوسائل العصرية التي تندمج مع أنشطتهم المستهلكة لأوقاتهم بلا تعارض ولا تهميش. تقل قيمة النصائح المباشرة كلما تعارضت مع سلوكياتهم الجديدة حتى تصل إلى انعدام التأثير بالكامل أو ربما التأثير بطريقة عكسية.
قد نحاول شرح مفاهيم المسؤولية الاجتماعية للأطفال بعشرات العبارات المباشرة وغير المباشرة، ولكن تجربة تطوعية حقيقية واحدة تكفي لتأصيل مفهوم المسؤولية الاجتماعية وبعضا من ممارساته في الوقت نفسه. تسمح تجربة العمل التطوعي بنقل العديد من الدروس من الواقع إلى الطفل والشاب في وقت قصير وبطريقة مؤثرة لا يمحى أثرها بسهولة. يزيد هذا الأثر إذا شارك معه أحد الوالدين وقام بلفت انتباه الابن إلى بعض ملامح المسؤولية الاجتماعية، قبل وخلال وبعد التجربة. ينتقل الطفل إلى درجة أعلى من الوعي الأخلاقي عندما يؤمن ويمارس العمل التطوعي كما يجب.
ما يميز هذه النوع من الدروس الواقعية - كالتطوع - هو أنها قابلة للتخطيط، ويمكن تنفيذها في أي وقت سواء بطريقة بسيطة غير ظاهرة أو بأسلوب منظم ومعلن. والحمد لله تتزايد اليوم قنوات التطوع ولا يبقى إلا توعية الآباء لأنفسهم وإعدادها لتوجيه أبنائهم.
من المهم كذلك أن تتسع آفاق الطفل على قدر الواقع الموجود من حوله، فلا تحصر معرفته بعوالم التقنية الافتراضية ولا بعدد محدود من الناس تكاد تتطابق أوصافهم وسماتهم. تعطي فرصة مخالطة المجتمعات الأخرى المختلفة عن مجتمع الطفل الأساسي حيزا أصغر لافتراضاته الخاطئة، وتجعله يوقن مبكرا بأن الاختلاف حق والتنوع حقيقة من الحتمي أن يتعايش معها. وليس على الطفل التنقل أو السفر لمخالطة الغير، فالوالد الجيد يستطيع أن يمنح الطفل فرصة التعايش المنضبط مع أصدقاء المسجد والحي والمدرسة والأقرباء وربما فرصة التعرف والحديث مع مجتمع العمل في المناسبات السنوية وبقية من يختلفون عنه عرقيا واجتماعيا وثراء.
تشكل السياحة المكانية الواعية مدخلا جيدا لرفع الحس المجتمعي وتعزيز الدوافع الأخلاقية التي تقوي من مقاومة الطفل للفساد في المراحل العمرية اللاحقة. مشاهداته الحسية وتقديره للممارسات المختلفة وأساليب التعايش عند الآخرين – خصوصا أثناء السفر – تصنع فارقا مميزا في عقليته ووعيه، خصوصا إذا ما اقترنت هذه المشاهد بوقفات تعقيبية تلفت انتباهه نحو قيمة هذه الممارسات وأسباب اختلاف تفسيراتنا لهذه القيمة.
كلما اتسعت معارف الطفل وتأسست قيمه الأخلاقية بطريقة مرتبطة بالواقع، فكان الكذب محرما بالممارسة قبل الكلام، والقناعة ممثلة له في كفاية المكاسب والامتيازات التي يحصل عليها وليس مجرد فكرة لا يستوعبها، والغش محظورا ولو قل أثره، والتنوع مشاهدا ومحسوسا وليس عبارة عن "آخرين" يسمع عنهم ولا يراهم، تعززت مناعته الأخلاقية وقوي بنيانها.
محاولة ربط ما سبق وغيرها من الأساليب المبتكرة الجديدة بأساليب التربية والتأثير لا يلغي الممارسات التربوية التقليدية كتطبيق مبدأ الثواب والعقاب. ولكن لابد من أن تتسع قدراتنا لمتغيراتهم، وإلا ساهمنا في البنيان الأخلاقي الهش الذي سرعان ما يتدهور عند أضعف التحديات.