Author

الأزمات المالية .. والاستثمار في المواهب

|
مختص في التمويل والتنظيم وأكاديمي
حقيقة أنا متفائل من أن ترشيد الإنفاق الحكومي سيغير معادلة الإنفاق. فالإنفاق الحكومي بصورته الحالية يشجع على زيادة صرف بنود الميزانية السنوية لأن صرف بنود الميزانية أحد الضمانات لزيادة مخصصات ميزانية العام المقبل. هذه السياسة المالية أضعفت الاهتمام بكفاءة الأداء؛ لذا فإن كفاءة الإنفاق الحكومي لم تختبر بعد خصوصا خلال السنوات السابقة التي تميزت بوفرة مالية عالية أضعفت الاهتمام برفع كفاءة الإنفاق. من الجوانب المشرقة للأزمات المالية أنها أفرزت عديدا من النظريات في الإدارة الحكومية. فمثلا الأزمة المالية في بداية الثمانينيات وبداية التسعينيات الميلادية أظهرت عديدا من النظريات الخاصة بالإنفاق والأداء الحكومي كنظريتي public choice وproperty theory وغيرهما. كما أن الأزمة المالية التي عصفت بألمانيا مع بداية السنوات الأولى للألفية الثانية من هذا القرن، أعادت للحكومة الألمانية ترتيب أولوياتها وهيكلة مواردها وطرق صرفها. هذه الحقائق وغيرها تنطبق أيضا على النظام الإداري في بريطانيا وفرنسا وعديد من الدول المتقدمة. كما أن أحد الجوانب المشرقة للأزمات المالية، أنها زادت من الاهتمام برفع كفاءة الأداء كأحد الحلول الكفيلة لتقليل الآثار المترتبة على الأزمات؛ لذا فإن إنشاء مركز وطني لقياس الأداء في الأجهزة الحكومية تحت مسمى المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة خطوة مهمة وإن تأخرت نظرا لأن مفهوم كفاءة الأداء شبه مغيب في دوائرنا الحكومية. فباعتقادي أن إنشاء مركز أو هيئة لرفع كفاءة الأداء أهم من تأسيس هيئة لمكافحة الفساد لكون رفع الأداء سيقود حتما إلى مكافحة الفساد لكن مكافحة الفساد لا تقود بالضرورة إلى رفع كفاءة الأداء؛ لذا نجد أن البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية جعلتا كفاءة الإنفاق من أهم مخرجات النظم خصوصا النظم الصحية التي تعتبر من أهم مصادر الصرف في الميزانيات الحكومية، خصوصا المرحلة التي نمر بها حاليا تتطلب منا مزيدا من الاهتمام برفع كفاءة الأداء كما تتطلب منا الاستثمار بصورة أكثر جدية في المواهب القادرة على تقديم الحلول الذكية. ويمكننا القول إن المرحلة المقبلة تتطلب منا قلب معادلة اختيار القادة من مجرد قيادات ضعيفة قد تكون مطيعة إلى قيادات ذات مواهب مبدعة في أدائها ونسق عملها وخبرتها، الحلول الذكية والمبدعة لا يمكن أن تصدر من قيادات عديمة الخبرة وضعيفة الشخصية، فتقديم الحلول الإبداعية واستثمار الميزانيات وفقا لأولويات المنشآت لا وفقا للمصالح الشخصية هو ما يميز القيادات الحقيقية عن غيرها. من المفترض أن تكون الجامعات بيت الإبداع وتقديم الحلول الناجعة لمشاكل المجتمع وكيفية التعامل معها، ولا شك في أن كيفية التعامل مع الأزمات المالية وكيفية تقليل آثارها من ضمن هذه المشكلات، لكن المؤسف أن عديدا من الجامعات لدينا لا تدعم البحوث والدراسات التي تقدم حلولا للمجتمع بصورة مباشرة، بل تركز على قضايا جزئية، فمن المؤسف أن بعض الجامعات لا تختلف ممارستها الإدارية عن ممارسات أي وزارة أو دائرة حكومية، خصوصا في عجزها عن الوقوف بنفسها وإدارة مواردها بنفسها، فضلا عن قدرتها على تقديم الحلول الناجعة للمجتمع الذي يعتبر أحد أهم أدوار الجامعات. في اعتقادي أن الأزمات المالية هي اختبار حقيقي للقادة، فمن استثمر في الموارد البشرية المؤهلة علميا وعمليا، فستكون قادرة على إدارتها بكفاءة عالية وتقلل حدة أثرها عليها، أما إذا استثمرت في مواصفات بشرية ضعيفة فستكون هذه الأزمة محطة مهمة لمراجعة أولوياتها، كما أنها ستعاني بشكل كبير في إعادة ترتيب أولوياتها، وستكون مهمة صعبة لكنها غير مستحيلة. عند تحليل مرحلة العقد الفائت، فإننا نجدها تتميز بوفرة مالية عالية، هذه الوفرة المالية انعكست سلبيا على اختيار الكفاءات والقيادات بعناية لأن الوفرة المالية كانت كفيلة بحل كل المشاكل وإرضاء الجميع عبر الهدر المالي، فلا عجب أن نجد أن تلك المنشآت وبسبب ضعف استثمارها في القادة والموارد البشرية المميزة فشلت في تطوير مستوى خدماتها خلال فترة الوفرة المالية، فظلت تلك المنشآت تركز على قضايا شكلية وجزئية وهامشية. هذه الحقيقة قادت تلك المنشآت لبطء العملية التنموية والتطويرية لديها، بل أصبحت عديد من المنشآت الحكومية ينطبق عليها القول "غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع". الاستثمار في المواهب هو جزء من الاستثمار في الموارد البشرية، هذه المواهب قادرة على تقديم الحلول الكفيلة لتقليل أثر أي أزمة مالية تتعرض لها المنشأة التي تعملون بها؛ لذا فإن الاستثمار في المواهب أصبح الآن ضرورة ولم يعد خيارا.
إنشرها