قصة تعقيم المياه «4» .. «كوليرا .. كلور .. سرطان»

رأينا كيف أن تعقيم المياه لم يتطور إلا في نهاية القرن الـ19 الميلادي عندما بدأ التعقيم الكيميائي للمياه. وذلك بعد أبحاث جون سنو وأيجناتس سيميلويس ولويس باستير وغيرهم، التي أثبتت وجود ميكروبات مسببة للمرض تنتقل عن طريق مياه الشرب. وكان السؤال المنطقي عندها: كيف يمكن إذا تعقيم هذه الكميات الكبيرة من المياه؟ البداية كانت باستخدام الكلور وهو المعقم ذاته الذي استخدمه جون سنو وسيميلويس في تجاربهما.
كان الكلور هو المعقم الأول والأشهر عالميا ـــ ولا يزال كذلك ـــ الذي اكتشف للمرة الأولى على يد العالم السويدي كارل ويليام شيلي في عام 1774 على الرغم من أن كثيرا من المصادر تنسبه إلى البريطاني همفري ديفي، وذلك لأنه ـــ أي ديفي ـــ هو من أطلق الاسم: كلور أو كلورين وتعني الأخضر الباهت بالإغريقية "وهو لون الغاز".
مع انتشار التعقيم بالكلور في مختلف أنحاء العالم في القرن الـ20، تم بشكل كبير القضاء على عديد من الأمراض التي فتكت بالملايين من البشر. بدا أن العلماء قد وجدوا المادة السحرية، فالكلور رخيص وسهل الاستخدام يمكن إضافته إلى الماء كغاز أو سائل أو حتى في صورة صلبة. فعالية الكلور في القضاء على كثير من الأوبئة التي كانت تنتقل عبر الماء حدت بالأكاديمية الوطنية الأمريكية للهندسة إلى أن تعتبر الماء المعقم والصحي رابع أهم إنجاز لتحسين مستوى المعيشة في القرن الـ20 (الأول كان الكهرباء ثم السيارات فالطائرات وخامسا الإلكترونيات). فقبل استخدام الكلور، كان الماء الملوث أهم أسباب الوفيات في العالم خصوصا عندما يكون التلوث بواسطة بكتيريا أو فيروسات غير واضحة للعيان.
تم استخدام الكلور في تعقيم مياه الشرب في بداية القرن الـ20 وكانت بلدة ميدل كيركي البلجيكية الأولى في العالم في إنشاء نظام تعقيم مياه الشرب في البلدة بالكلور (بعض المصادر تمنح الأولوية لبلدة ميدستون الإنجليزية في عام 1897). انتشر بعدها استخدام أنظمة تعقيم المياه بالكلور في العالم انتشار النار في الهشيم. ففي الولايات المتحدة مثلاً، بدأ استخدامه للمرة الأولى في محطة مياه مدينة جيرسي سيتي، وانتقل بعدها لسائر الولايات والمدن واليوم يستخدم في الغالبية الساحقة من محطات المياه هناك. ولهم ـــ أي الأمريكيين ـــ يرجع الفضل في تطوير كثير من أنظمة التعقيم بالكلور، التي لا تزال تستخدم حتى يومنا الحاضر مثل نظام التعقيم بالكلور الغاز ـــ كان التعقيم قبلها باستخدام أحد أملاح الكلور ـــ الذي طوره الأمريكي تشارلز والاس واستخدم في مدينة فيلادلفيا ـــ عاصمة أمريكا الأولى. الطريف أن هذا الاهتمام ـــ أو الهوس ـــ الأمريكي بالكلور لم يكن كذلك في البدايات، بل كان هناك شك وريبة من إضافته للماء. فمع ظهوره في القارة الأمريكية، بدأت المعارضة الشديدة وبمسوغات عدة. فتارة لأنه مادة كيميائية تمت إضافتها إلى ماء الجبال والآبار (النقي) وتارة أخرى بسبب رائحته وطعمه غير المستساغ للناس والخيول. استمرت المعارضة لعقود ولكنها خفتت ثم اختفت مع إثبات الكلور لجدارته في القضاء التام على الأمراض والأوبئة التي كانت تجتاح المدن الأمريكية في بداية القرن الـ20.
كان يبدو أن استخدام الكلور لن يتوقف بعد هذه النجاحات الباهرة حتى أتى عام 1969 حين أعلن العالم الهولندي ج. ج. روك أن ما اعتقدناه الحل ما هو إلا خطر آخر، لكن بشكل مستتر إذا لم يطبق بشكل صحيح. لاحظ روك أثناء عمله في محطة معالجة المياه في مدينة دن هاخ الهولندية (المعروفة عربيا بلاهاي) تكون مواد جديدة عند تعقيم المياه بالكلور. بعد دراسة مستفيضة لهذه المواد، التي سميت لاحقا تي إتش إم Tri-Halo Methane وجد أنها مواد مسرطنة للبشر. باختصار شديد: تنشأ هذه المواد عند استخدام الكلور ـــ أو إحدى مركباته ـــ لتعقيم مياه غنية بالمواد العضوية كمياه الأنهار والبحيرات خصوصا. هذه المواد عبارة عن جزيء ميثان تم استبدال ثلاث ذرات كربون بذرات هالوجينات "كلور، برومين". تنقسم مواد إل تي إتش إم إلى أربع مركبات أشهرها الكلوروفورم. أثبتت الدراسات لاحقا أن اثنتين من هذه المركبات مواد مسرطنة محتملة "تصنيف الوكالة الدولية لأبحاث السرطان للمواد، التي أظهرت تأثيرا سرطانيا للحيوانات المخبرية لكن لم يثبت خطرها على البشر" في حين لم يتم تصنيف المركبين الآخرين لغياب الأدلة إلى الآن.
وقع الخبر كالصاعقة على مستخدمي المياه المعقمة بالكلور في أنحاء العالم. كان السبب في استخدام الكلور هو القضاء على الأمراض الفتاكة، التي كانت تفتك بالملايين في عدة أيام. الآن وبسبب الكلور ظهرت أمراض سرطانية تفتك بالملايين لكن في عدة سنوات. تسبب هذا الوضع في سؤال علمي ـــ في ظاهره ـــ وأخلاقي في جوهره: في جل بلدان العالم (الثالث)، يموت كثير ــــ خاصة الأطفال ـــ بسبب ماء الأنهار والبحيرات الملوث. في ظل غياب المعامل والتقنيات المتقدمة لتعقيم المياه، هل نستخدم الكلور للقضاء على هذه الأوبئة التي ستودي بملايين الأطفال سريعا "كالكوليرا والتيفوئيد" أم نمتنع لئلا نتسبب لهم في السرطان إذا كبروا؟ تقول منظمة الصحة العالمية إن "الأخطار الناتجة عن التعقيم بالكلور صغيرة جداً، مقارنة بالأخطار الناتجة عن عدم التعقيم"، ولكن ماذا لو تم التعقيم إنما بمعقم غير الكلور؟
ومجددا بدأ العالم في البحث عن بديل آخر لتعقيم الماء وهنا ظهر الأوزون، الذي بدا فعالا وآمنا، وبدأت المعامل في أنحاء العالم باستخدامه، وهو ما سنتحدث عنه في الأسبوع القادم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي