قصة تعقيم المياه «2» .. الدكتور المجنون
في منتصف القرن التاسع عشر وفي العاصمة النمساوية ومدينة الموسيقى والفن والأحلام -فيينا- كان الطبيب المجري المغمور إيجناتس سيميلويس IgnatzSemmelweis في حيرة من أمره. فلم تعد النساء الحوامل يأتين للمستشفى للولادة بعد أن ساءت سمعة مستشفى فيينا الكبير. ما كان يحدث في ذلك الوقت هو أمر محير فعلا، فنسبة الوفيات بين النساء الحوامل عند الوضع في المستشفى كانت مرتفعة جدا -قدرتها بعض المراجع بـ 25 إلى 30 في المائة في حين تشير التقديرات المتحفظة إلى نسبة وفيات تقدر بـ 18 في المائة. كل هذا في الوقت الذي كانت نسبة الوفيات منخفضة عندما تتم الولادة في المنزل بواسطة القابلات، فلم تكن تتعدى الـ 2 في المائة! كان من المفترض أن يكون العكس هو الصحيح، فكيف يكون المستشفى هو المكان الأشد خطورة؟ بدأ إيجناتس التحري عن السبب الغامض ولم ينتبه إلى أن اكتشافه لن يؤدي فقط إلى إنقاذ النساء النمساويات الحوامل وسمعة المستشفى، بل وملايين البشر لاحقا. فما وجده كان بداية معرفة أهمية التعقيم وطرقه. وكما كان اكتشافه سببا لسعادة الملايين، كان سببا في شقائه ورحيله المأساوي.
وجد إيجناتس أن أطباء التوليد وطلاب الطب يأتون مباشرة من المشرحة بعد دروس التشريح للعمل في غرف التوليد. أي أن الأطباء انتقلوا من العمل مع الموتى إلى العمل مع الأحياء مباشرة ومن دون حتى أن يغسلوا أيديهم!
أدى شكه بوجود طريقة لانتقال الأمراض من الأطباء إلى المرضى بالطلب من الأطباء بأن يغسلوا أيديهم بحمض الكاربوليك كأول مادة مطهرة وبالفعل انخفضت نسبة الوفيات بين النساء الحوامل إلى 2 في المائة. أثبت إيجناتس بعدها أن تعقيم الأدوات الطبية أيضا أدى إلى انخفاض نسبة الوفيات إلى 1 في المائة. لم تجد نظريته - وبالرغم من تدعيمها بالأرقام والإحصائيات - آذانا صاغية. كان من الصعب على الأطباء التخلي عن قناعتهم بنظرية الهواء الفاسد (المياسما) -انتقال الأمراض عن طريق الهواء الفاسد فقط- وكان من الأصعب إقناعهم بأن أيديهم المتسخة كانت السبب في وفاة مرضاهم. كيف لملاك الرحمة أن يكون رسول الموت؟
لم يتم رفض نظرية إيجناتس وحسب، بل تم إبعاده من مستشفى فيينا واضطر بعدها للعودة إلى بلاده المجر. وبعد سنوات نشر أفكاره ونظرياته عن أهمية التعقيم في كتاب لم يلق أي صدى في الأوساط الطبية. أدى كل هذا الرفض إلى جنونه ومن ثم وفاته في مصحة نفسية عن عمر يناهز الـ 47. مؤلم جدا أن تكون العاقل الوحيد في بلدة تعج بالمجانين! حاليا وفي اللغة الإنجليزية يطلق مصطلح "ظاهرة إيجناتس سيميلويس" Semmelweis reflex للتعبير عن الرفض المتسرع للأفكار الجديدة لتعارضها مع المعتقدات السائدة.
وبعد وفاته بنحو العقدين -ونتيجة أبحاث علماء آخرين- تم الاعتراف بأهمية أبحاثة وتمت تسمية إحدى الجامعات في بلاده باسمه "جامعة سيميلويس للطب في بودابست". بل تم تأليف عشرات الكتب عنه وأكثر من سبعة أفلام سينمائية عن قصته في حين لا يذكر لنا التاريخ اسم أحد معارضيه.
الغريب في الأمر أن العلماء الأوروبيين كانوا متمسكين بنظرية مياسما رغم معرفتهم بوجود كائنات حية مجهرية وهو ما يؤكد وجود ظاهرة مقاومة التغيير في كل عصر وفي كل فن. فهذه الكائنات المتناهية الصغر تمت "رؤيتها" للمرة الأولى عن طريق العالم الهولندي أنتون فان ليونهوك في بلدة دلفت في عام 1675. بل إن كثيرا من العلماء قبل ذلك "تنبؤوا" بوجودها من غير معرفة ماهيتها كالإيطاليين؛ فراكاستورو وريدي اللذين يرجع لهما الفضل في هذا المجال. لكن لم يستطع أحد الربط بين وجود هذه الكائنات وبين الأمراض إلا بعد مرور ما يقرب من القرنين من الزمان! فقد كان الإيطالي أغوستينو باس أول من وضع الأساس لنظرية جرثومية المرض التي تقول، إن الميكروبات -كالموجودة في الماء- هي التي تتسبب بالأمراض. أبحاث باس لم يلق لها بال إلا بعد نجاح جون سنو في إثبات نقل الماء للميكروبات ووقف الكوليرا في لندن وكذلك نجاح إيجناتس سيميلويس في إيجاد طرق للتخلص من هذه الميكروبات عن طريق التعقيم في مستشفيات الولادة. علماء آخرون أكملوا المشوار بعد اعتناقهم نظرية جرثومية المرض وأسهموا في انتشارها كالعالم الفرنسي الشهير لوي باستير -صاحب عملية (بسترة) الحليب- والعالم الألماني روبرت كوخ -الحائز على جائزة نوبل لاحقا- والجراح البريطاني جوزيف ليستر.
وعلى الرغم من وضوح أهمية تعقيم الماء في عصرنا الحالي الآن إلا أن قصة التعقيم مرت بمخاض عسير استمر على مدى قرنين من الزمان، وكما قلنا في المقال السابق، شكرا جو سنو لاكتشافه إمكانية نقل الماء للميكروبات المرضية، نقول هنا، شكرا للدكتور المجري إيجناتس سيميلويس لاكتشافه بداية طرق التخلص من هذه الميكروبات. فلقد كانت أبحاث جون سنو ومن بعده إيجناتس سيميلويس بحق حجر أساس لتبني نظرية جرثومية المرض Germ Theory ومعول هدم لنظرية الهواء الفاسد Miasma. وهو ما مهد الطريق لعلم تعقيم المياه وعلم دراسة الأوبئة بشكل عام الذي أسهم في الحفاظ على حياة الملايين من البشر.