الحقوق المدنية لا تعني حقوق الإنسان
هيئة الأمم التي لم تقو في يوم من الأيام على تحقيق العدل والسلم العالمي ولن تجرؤ على إدانة إسرائيل وما تفعله من جرائم حرب، تصدر تقريرا عن حقوق الإنسان وتدين السعودية دون احترام لنظام إسلامي يحكم مليارا ونصف المليار مسلم، بل إنها لم تستطع فعل شيء حول الممارسات الاستعمارية التي تقوم بها الدول العظمى أعضاء مجلس الأمن وزرع الفتن والحروب في مناطق مختلفة من العالم. إن معاناة الكثير من الشعوب خاصة في الدول النامية هي بسبب مخططات تلك الدول الاستعمارية؛ ولذا من المؤسف حقا أن يتم استخدام مفهوم حقوق الإنسان في هيئة دولية مثل الأمم المتحدة بطريقة ملتوية وانحياز سياسي لصالح الأعضاء الأقوياء. والناظر في تاريخ حقوق الإنسان في العالم الغربي يجد أنه حديث على الأقل نسبة إلى المنهج الإسلامي الذي دعا إلى حفظ حقوق الناس قبل ما يقارب 1400 عام. وكان من الأجدر على الأمم المتحدة أن تتخذ من مبادئ الإسلام العظيمة منطلقا لنشر مفهوم حقوق الإنسان. ولتوضيح هذا التناقض الذي تمارسه هيئة الأمم نعرض لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة التي تعتبر راعية الديمقراطية في العالم وكيف أنها أخفقت في ذلك؛ وتم الترويج لمفهوم الحقوق المدنية كبديل لحقوق الإنسان في الداخل الأمريكي.
ظهر مصطلح الحقوق المدنية للأقليات في الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة بينها والاتحاد السوفياتي (السابق) كغطاء للتمييز العنصري الذي كان يعتبر نقيصة ويتضاد مع النظام الأمريكي الديمقراطي. لقد كان - ولا يزال إلى حد كبير - ما تعانيه الأقليات خاصة الأمريكان من أصول إفريقية من تمييز عنصري يظهر على السطح من حين إلى آخر في أحداث متفرقة وعلى امتداد النطاق الجغرافي للولايات الأمريكية. من أبرز صورها استخدام الشرطة القوة المفرطة ضد الأقليات، أو التعامل السيئ الذي يلقونه من بعض المؤسسات أو حتى السكان البيض. وعلى الرغم من أن الحكومة الأمريكية قطعت شوطا كبيرا في تحقيق المساواة بين فئات المجتمع الأمريكي، إلا أنها جهود تقع ضمن إطار منحهم حقوقهم المدنية لضمان التعايش مع الأكثرية وتقليل الاحتقان الشعبي وليس حقوقهم الإنسانية. أي منح الأمريكان الأفارقة حق الاختلاط مع البيض في الأماكن العامة والمدارس والجامعات والحافلات والمحال التجارية وإتاحة الفرصة لهم للعمل بالأجهزة الحكومية، وهذه جميعها كانت محرمة عليهم لأسباب عنصرية. هذه الجهود للحكومة الأمريكية كانت موجهة لمنع الفصل العنصري الذي كان يمارس على الأقليات، ولكنها لم تعالج جذور المشكلة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وإنما كان الدافع هو تصدير المفهوم خارج الولايات المتحدة خاصة أن تدخلها في شؤون المجتمعات الأخرى يقتضي ذلك؛ إذ تنطلق دعواها في التدخل في شؤون الغير من تطبيق حقوق الإنسان في تلك المجتمعات.
وما حدث في مدينة فيرجسون في ولاية ميزوري يؤكد أن هناك قصورا في استيفاء الأقليات حقوقهم الإنسانية في الولايات المتحدة؛ ولذا كان على المحلل النظر لما حدث في فيرجسون بشكل أوسع وأعمق ليدرك الوضع الذي تعيشه الأقليات على حقيقته وتتضح الصورة في أن الأمريكان الأفارقة ما زالوا يعانون الظلم ولم يستوفوا جميع حقوقهم كبشر. يجب ألا يتم اختزال القضية في قتل الشرطة شابا إفريقيا أمريكيا ظلما وعدوانا وإنما الأهم ردة الفعل الغاضبة والمستمرة من سكان المدينة السود وفي مناطق أخرى في الولايات المتحدة التي تعبر عن استيائهم لما يتعرضون له من ظلم مؤسسي وتدل دلالة واضحة على عدم رضاهم عن وضعهم المعيشي وكأنما كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث ليعبروا عن استيائهم وعدم حصولهم على كامل حقوقهم. لقد أشار جيمس بولدن ومالكم إكس وهما من أبرز قيادات حركة الحقوق المدنية إلى أن حقوق الأمريكان الأفارقة تتعلق بحقوقهم كمجموعة وليس كأفراد، ولذا كانا يؤكدان على ألا تتوقف المطالبة عند الحقوق المدنية، بل تتعداها إلى حقوقهم الإنسانية.
وعلى أن الدستور الأمريكي يؤكد أن الناس خلقوا متساوين، إلا أن الولايات المتحدة كانت المكان الوحيد في العالم الذي يجيز استعباد الناس على أساس العرق. هذا التناقض بين ما ينص عليه الدستور وتطبيقه على أرض الواقع جعل الأقليات يشكون في تحقيق الحلم الأمريكي في العيش الكريم والرفاهة الاجتماعية ويرونه بعيد المنال. وأحداث التعديات على الأقليات وردود أفعالهم وما يصحبها من عصيان مدني وشغب في المدن الأمريكية يؤكد أنه ما زال في ذهنية ووجدان الفرد الأمريكي الإفريقي اعتقاد راسخ أنه لم ولن ينال حقوقه كاملة حتى يومنا هذا. ولقد أصبح جليا أن منح الأقليات حقوقهم المدنية إنما هو لدواعي الدعاية الإعلامية التي تقتضيها السياسة الخارجية الأمريكية التي ترتكز على التدخل في شؤون البلدان والسيطرة عليها؛ إذ ليس من المعقول والمقبول أن تروج للديمقراطية وحقوق الإنسان وهي لا تمارس ذلك في عقر دارها؛ وهذا ما دفع الرئيس روزفلت على سبيل المثال إلى منع الفصل العنصري في عام 1957، وذلك من أجل تغيير الصورة السيئة وإقناع الناس حول العالم أن أمريكا مكان يتمتع جميع مواطنيه بالحرية ويحصلون على الحقوق والفرص نفسها، وأعقبه بعد ذلك قانون الانتخابات في عام 1964 الذي يسمح فيه للأمريكان الأفارقة والأقليات بالاقتراع في الانتخابات.
وعلى الرغم من أنه يمكن الاتفاق على معايير وقيم ومؤشرات عامة لحقوق الإنسان مثل حرية التعبير، إلا أن كيفية التطبيق تظل نسبية حسب ثقافة المجتمعات وبالتالي لا يمكن فرض معايير بعينها تصدر من مجتمع ما على مجتمع آخر. على سبيل المثال حد القتل لا يجيزه الاتحاد الأوروبي، بينما لا يعتبر قضية حقوق إنسان في أمريكا. ويتأكد يوما بعد آخر أن حقوق الإنسان موضوع سياسي في المقام الأول وكلمة حق أريد بها باطل؛ وما التناقضات التي يشهدها العالم إلا دليل واضح على ذلك. فجميع الدول التي تنادي بحقوق الإنسان هي في أساسها مستعمرة ونظامها يعتمد على السيطرة على مقدرات الآخرين حتى ولو تغير الأسلوب، بل إن الدعوة لحقوق الإنسان هو تحول في نهجها من الاحتلال العسكري إلى الاحتلال الثقافي.