العالم

الهوية في العالم العربي .. أزمة معنى أم أزمة حضارة؟

الهوية في العالم العربي .. أزمة معنى أم أزمة حضارة؟

في نص جميل وطريف لعبدالفتاح كيليطو (الكتابة والتناسخ، 1992) مشهد مثير لشخص تاه عن منزل وجوده في صحراء قاحلة وافتقد كل أثر يمكن أن يقوده إلى منزل وجوده الأصلي. يقوم التائه بجهود مضنية للبحث عن طريق العودة، لكن الصحراء المقفرة تخفي كل أثر أو معالم، تتعدد المحاولات وتتكرر لكنها تنتهي إلى الفشل. بعد تفكير طويل يهتدي هذا الشخص إلى تقليد أصوات كلاب القبيلة أملا في أن ترد عليه للاهتداء إلى موطنه. يبذل الشخص جهودا مضنية للعودة إلى موطن وجوده الأصلي ولو عبر تقليد لغة / صوت الكلاب، لكن هذه الحيلة نفسها تعترضها عوائق من قبيل وجود كلاب أخرى ضالة ومضللة .. الحكاية على طرافتها تطرح مشكلة التيه عن الموطن الأصلي والرغبة في العودة مهما كلف الأمر. المشهد الروائي يختزل سؤالا وجوديا يرتبط بلماذا هذه الرغبة الجامحة في العودة إلى الأصل؟ يعرف المعجم الوسيط” الصادر عن مجمع اللغة العربية «الهوية” بأنها: ”حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره. ويذهب المعجم إلى تحديد معنى آخر للهوية حين تضاف إلى الكلمة “بطاقة”، أو توصف بالنعت “الشخصية”، لتجعلنا نحصل على المصطلح “بطاقة الهوية” أو ”البطاقة الشخصية”، المتداولين حديثا، فيذكر أن “الهوية بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله”. ويعرف الجرجاني الهوية بأنها: “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق”. وفي المعاجم الغربية يحدد قاموس أكسفورد الهوية بوصفها ”حالة الكينونة المتطابقة بإحكام، والمتماثلة إلى حد التطابق التام أو التشابه المطلق” أما معجم روبير فيحدد الهوية ”باعتبارها الميزة الثابتة في الذات” ويختزن هذا التحديد معنيين يعمل على توضيحهما معجم المفاهيم الفلسفية لفولتير على الشكل التالي ”إنها ميزة ما هو متماثل، سواء تعلق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي يقيمها فرد ما مع ذاته، أو من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع على اختلاف أشكالها”. تشترك التعاريف على اختلافها في التركيز على ماهية الاستمرارية والتطابق والمماثلة فتصبح الهوية هي مجموعة من الميزات الثابتة والمكونة من خصائص الشيء أو الشخص، التي تشتمل على الصفات الجوهرية الثابتة المميزة له، والتي تمنحه التفرد والخصوصية، وتحدد في الوقت نفسه صورة الشخص عن ذاته والصورة التي يحملها عن نفسه وتقود إدراكه لذاته كموضوع في إطار علاقاته مع الآخر. ومن ثمّ تصبح الهوية “الفعل الذي يجعل من واقع ما مساويا أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر”غير أنه وعلى أهمية هذه التعاريف يبقى عديد من الأشياء عالقا: من قبيل هل فعلا تتحدد هوية الأشخاص من خلال الثبات والمطلق والماهيات والجواهر؟ ألسنا هنا في تناقض تام مع الحكمة الهيراقليسية؟ لا ننزل في النهر مرتين؟ أليس التغير هو الناموس الوحيد الثابت في الوجود؟ بل كيف يمكن، كما يقول السوسيولوجي الفرنسي إدغار موران، أن نحدد العناصر الثابتة في الذات أم في المجتمع؟ في الجسد أم في العقل؟ وليست الهوية في النهاية خليط من المكونات متماثلة مع درجة تعقد الظاهرة الإنسانية ذاتها إذ الإنسان في النهاية كائن عاقل وواهم، سحري أسطوري شعري ونثري؟ مستهلك ومنتج؟ ملحد ومتدين؟ فردي وجماعي؟ خصوصي وكوني؟ هذه الأبعاد المتناقضة لمفهوم الهوية هي التي دفعت روبير مستري في اللقاء الدولي للهوية المنعقد بباريس يقول: ”إن محاولة دراسة الصيرورات التي تعمد إليها المجموعات أثناء بناء هويتها تقتضي افتراضا أن أعضاء الجماعة يحاولون التماثل فيما بينهم مع ما يقتضي ذلك من إدراك البعد الدينامي للهوية باعتبارها ذات محددات داخلية وخارجية، ونوعا من الانزياح يتجاوز البعد الأحادي التخصص إلى مجالات معرفية متعدد الأبعاد”. إن الحل الأمثل في نظره الأمثل لتفادي القلق والمأزق اللذين يوجدهما المفهوم هو مقاربة متعددة التخصصات. بالعودة إلى تعريفات الهوية المذكورة سالفا نلاحظ بغير كثير من العناء التركيز على البعد المطلق للهوية، باعتبارها جوهرا ثابتا، أو ماهية، إنها الخصائص الجوهرية الثابتة، إنها الميزة المتماثلة والمتطابقة. إن هذه الأبعاد التي تحملها الدلالات ورغم كونها لغوية، تحيل على حقل اشتغال هوية المجتمعات. وهذا طبيعي لأن اللغة في النهاية اختزال للوجود بأسره، أليست هي، يقول فتجينشتاين، مكمن الوجود؟ أو كما يصدح نيتشه موطن الأوهام؟ بين الثبات والمطلق، بين الخصوصية والكونية، بين الانغلاق والانفتاح تتموقع أهم إشكاليات مفهوم الهوية وقد تحول إلى خطابات تمارس تأثيرها في المجتمعات. وهنا يمكن أن نميز بين: اتجاه يعتبر الهوية معطى جاهزا قائما داخل زمنية مقدسة لا مجال لمساءلتها أو إضافة وتعديل عنصر منها. يعتمد هذا الاتجاه على الفكرة الجاهزة التي تتبادر إلى الذهن لتضفي وضوحا زائفا على موضوع الهوية، وهو الوضوح الذي ترافقه إمكانية التغني بالهوية والخصوصية الخالدة، ونشدان الوحدة المنغلقة. أما الاتجاه الثاني فينطلق من رفض كل ما يمكن تسميته الهوية الذاتية أو الجماعية لأن هناك هوية كونية لا مجال لتشتيت الانتماء إليها. بإزاء هذين الاتجاهين يبقى السؤال: أين يتموقع خطاب الهوية العربية؟ لن نتوقف كثيرا عند مفهوم الخطاب نظرا للمآزق الكثيرة التي يطرحها والنظريات اللسانية والسوسيولوجية التي قاربته، وسنكتفي بالتعريف الذي منحه إياه مؤسس نظرية الخطاب ميشيل فوكو الذي يعتبره “النصوص والأقوال كما تعني في مجموع كلماتها ونظام بنائها وبنيتها المنطقية أو تنظيمها البياني، أو نظام تعبير مقنن ومضبوط) كما يعني أحيانا (الميدان العام لمجموع العبارات، ومجموعة متميزة من العبارات أحيانا أخرى، وممارسة لها قواعدها، تدل دلالة وصف على عدد من معين من العبارات وتشير إليها أحيانا ثالثة)، إنه (في واقعه المادي مكون من أشياء منطوقة ومكتوبة) أو (مجموعة من الأدلة من حيث هي عبارات وبوصفنا قادرين على أن نعين أنماط وجودها الخاصة)، فالخطاب لا يتحدد إلا بوصفه منظومة من القواعد التي تميز مجموعة من المنطوقات التي تنتظم داخل الممارسة الخطابية. أما الهوية العربية فنعني بها مجموعة السمات التي تصبغ الشخصية العربية بمجموعة من الصفات والخصائص التي تميزها عن باقي الهويات الأخرى، والتي تتضمن اللغة والدين والعادات والتقاليد والقيم الأخلاقية. واعتمادا على ذلك فنحن نقصد بخطاب الهوية العربية مجموع النصوص والأفكار والأقوال والدلالات والقواعد التي تتحكم في صياغة هذه المكونات وتحدد تمثل الناس لذواتهم كأفراد وكجماعات وكمتماثلين داخل الوحدة نفسها وكمختلفين عن الآخرين وانعكاس ذلك على الواقع المادي بما هو بنيات اجتماعية وسياسية وثقافية وعلى العلاقة مع الغير المختلف والمغاير. لا يشذ العالم العربي الإسلامي كما يبدو للوهلة الأولى عن حالة المشهد التي وصفها في نصه الطريف عبدالفتاح كيليطو، فالإنسان العربي منذ استفاق على وقع مدافع نابليون مصاب بحالة من التوهان، بفعل الألغام الكثيرة المزروعة في طريقه والأزقة المفخخة، التي كتب حراسها على بوابتها الرئيسة “ممنوع الاقتراب أو محاولة التفكير”، بل إن كل محاولة لمساءلة هذه الهوية المقدسة تعرض صاحبها للمساءلة وربما التعذيب. حراس الهوية متجهمون جدا شداد غلاظ. بعضهم يلبس لباس السلطة التي تحدد شرعية كل الخطابات وتراقبها باستمرار وتفرض الهوية الجاهزة المتوافقة مع استمراريتها في السلطة، والبعض الآخر صار يلبس اللباس الأفغاني الغريب هو نفسه عن خصوصية المنطقة عندما كان لهذه المنطقة من خصوصية ثابتة، والبعض الآخر متخف في عمامة الإصلاح الديني المعتدل، أما هدفهم فاقتناص فرصة إهدار دم أصحاب الأفكار الدخيلة غير المنسجمة مع تعاليم بيئتنا وخصوصيتنا”. إن المتتبع لخطابات الهوية التي أنتجها الفكر العربي الإسلامي يكتشف أنها خطابات مبنية على الطابع العفوي والعاطفي. إنها تنبني على ثنائية الأنا والآخر والرفض أو القبول المطلقين. إن خطابات الهوية مهما اختلفت صيغها تصبح نابعة من المبدأ نفسه والقائم على القدسية واللازمنية وعلى الثبات. أزمة خطابات الهوية في العالم العربي تتمثل في عملية التبسيط الشديدة التي يتعرض لها مفهوم الهوية نفسه، رغم شدة تعقده وإحالته إلى عوالم يستحيل تصنيمها واختزالها من خلال الثبات. وتتمثل أيضا في استمرار منطق الثنائيات المتصلب، ما يؤدي إما إلى التمجيد والنرجسية الفارغة، وإما إلى التعصب والعنصرية. وفي كلتا الحالتين ستكون النتيجة هي التقهقر، والتطرف فكرا وثقافة واجتماعا.يلزم الكثير من الجهد لإعادة صياغة سؤال الهوية اعتمادا على إخضاعه للنقد وإخضاع سؤال من نحن لإعادة التنظير؟ إن الجدوى من إعادة صياغة سؤال «من نحن؟» تتمثل في تفادي السقوط في الفولكلورية أو الثقافوية لأن الهوية التي نحن بحاجة إليها بالنسبة حسب المفكر التونسي فتحي التريكي، لا بد من أن تتعالى عن هذه الثقافوية الضيقة ولا بد أن يأخذ تصورها صبغة الانفتاح والحركة كي لا تؤدي في واقع الأمر إلى استبعاد الآخر. لا بد هنا من التنصيص على أن نقد خطاب الهوية لا يعني تقويض الهوية والتأسيس لنزعة متطرفة بقدر ما يعني اكتشاف العناصر المتصلبة وإبراز أوهامها. إن الأمر لا يتعلق بشك مطلق في الهوية وعناصرها المؤسسة بل ضرورة إخضاعها لمصير العصر وأساسه صيرورة الزمان ومن ثمّ إمكانية تشكيل عناصر جديدة أي هوية منفتحة بعناصر متطورة ومواكبة لإشكاليات القرن في أفق تشكيل الفرد الواعي بذاته المحدد لخياراته. إن سيطرة المطلق على خطاب الهوية يحولها إلى مأساة ويسهل تحولها إلى مغامرة أصولية عاجزة عن إدراك الجديد.وبالتالي تشكل تهديدا لكل إرادة في التحديث وتأسيس المجتمع المنفتح والمنشود. إن الهوية القائمة على الثبات والمطلق كثيرا ما تؤسس لأوهام الحقيقة المطلقة خارج مفاهيم الاختلاف والمغايرة والتعدد والكونية وهي أوهام تقود إلى الانغلاق والتطرف. يجب إذن أن يتركز نقد خطاب الهوية على بناء نقد إبستيمولوجي ينصب على الأصول إذ لا مجال للبناء دون عودة إلى الأصول ولا أساس لثقافة مجتمع مأزوم دون صياغة هوية اختلافية جوهرها الإبداع والتجاوب مع الجديد. إن القضاء على الأوهام المستندة إلى هوية متفوقة ومتعالية عن الزمان وغير خاضعة للتغيير ونسبية وغير معترفة بأسباب الهزيمة والتخلف تبقى رهانا فلسفيا وسياسيا وحتى دينيا لتجاوز أسس هوية مأزومة وهو تجاوز لن يتم إلا بالقطع مع أنماط التفكير المنغلق في كل أبعاده التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية والدينية. إن الخلاصة الأساسية اللازمة يجب أن تنبني على تعريف الهوية ”كوعي متحرك وحيوي بالصيرورة وبالمغايرة والاختلاف وهي إدراك نقدي متفتح على الآخر. فليست الهوية بمعطى ثابت ولا هي بملجأ، بل بالعكس، إنها صيرورة وبناء متواصل ومتجدد للذات، وهي تبحث عن اندماج معقلن وذي مردودية يقدر أهمية الآخر ويقبل به شريكا متضامنا في الثقافة والمشترك الإنساني” لأن الغريب يسكننا على نحو غريب كما تقول جوليا كريستيفا. * باحث سوسيولوجي مغربي
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من العالم