من صاحب فكرة كلية البترول؟
يدور هذه الأيام وسط نخبة من أفراد المجتمع حوار هادئ حول منبع فكرة إنشاء كلية البترول والمعادن قبل أكثر من خمسين خريفا، والتي كان قد تم افتتاحها في عام 1963. وتحولت فيما بعد إلى جامعة البترول والمعادن ثم إلى جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. فهناك من يقول إن راعي الفكرة الأساسية هو عبد الله الطريقي ـــ رحمه الله ـــ، على الرغم من عدم وجود ما يثبت ذلك كتابيا ولا رواية مثبتة. ولكن الأدلة ترجح هذا الظن. ومن أغرب ما سمعت أن إنشاء هذا المرفق التعليمي الحيوي كان من إيحاء شركة الزيت العربية الأمريكية آنذاك، أرامكو السعودية اليوم. والذي أعرفه أن موقف الشركة كان على عكس ذلك وضد الفكرة تماما. وربما أن الشركة كانت آنذاك تحبذ إنشاء نوع من مراكز التدريب المهني وليس كلية تكون لاحقا نواة لجامعة مستقلة ومتميزة. ومما لا شك فيه أن إنشاء جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، كان من أفضل وأنجح المشاريع العلمية التي وهبها الله لهذه المملكة. ويكفي أن خريجيها هم الذين يديرون اليوم، دون منازع وعن جدارة، الصناعة البترولية والبتروكيماوية في البلاد. وقد أصبحت بحق معلما علميا شامخا. ولا نبالغ إذا قلنا إنها ربما تكون أفضل جامعة في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من الكثير من المتغيرات الإدارية والتنظيمية في الشؤون التعليمية، إلا أن الجامعة استطاعت أن تظل، كما كانت، محافظة على حسن الأداء والتميز.
ولقد أسهم الكثيرون في إنجاح مهمة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن منذ إنشائها، وعلى وجه الخصوص أولئك الرجال الذين تولوا إدارتها من أبناء الوطن المخلصين والتشجيع اللا محدود من ولاة الأمر - رحم الله حيهم وميتهم. ولعله من باب إحقاق الحق ونسبه إلى أهله أن نبحث اليوم عن الشخص الذي كان له فضل نشأة فكرة تأسيس نواة الجامعة. وإن كان هناك من يخص نفسه بفضل المشاركة في الفكرة، ولكن دون دليل مادي ولا شواهد يقينية.
ولكن لماذا نميل إلى أن انبعاث اقتراح إنشاء كلية البترول والمعادن كان من رأس عبد الله الطريقي ــــ رحمه الله ــــ، وما هي الشواهد التي تدلنا على ذلك؟
أولا: لم نسمع أن أحدا بنفسه ممن عاصروا إقامة هذا الصرح العلمي الكبير ادعى صراحة أنه صاحب الرأي الأول في هذا المجال.
ثانيا، تم افتتاح الكلية في عام 1963، ومن الطبيعي أن يكون قد أخذ بناؤها والاستعداد لها أكثر من سنتين. فتكون قد أدركت الأشهر الأخيرة من وجود الطريقي على رأس وزارة البترول والمعادن، وهي التي تبنت إقامة المشروع.
ثالثا: وهو ربما الأهم في أن منبع ولادة فكرة إنشاء كلية البترول والمعادن في مدينة الظهران، قريبا من منابع البترول، كون عبد الله الطريقي، وقبل حتى أن يكون وزيرا لأول وزارة بترول في المملكة، كان قد تبنى مشروع ابتعاث طلاب الدراسة الثانوية إلى الولايات المتحدة بأعداد كبيرة للتخصص في علوم صناعة البترول من منبعه. وكان محدثكم من ضمن المجموعة الأولى التي ابتعثت أواخر عام 1959 لدراسة هندسة البترول في جامعة تكساس. وكان عبد الله الطريقي قد أنهى دراسة الماجستير، تخصص جيولوجيا، من الجامعة نفسها عام 1948. وتولى بعد تخرجه، وحتى أصبح وزيرا، مهام ذات أهمية قصوى تتعلق بعلاقة الحكومة مع شركات البترول في المملكة. وإنجازاته في هذا المجال أكبر من أن يقوم بها عدد كبير من المختصين والمتخصصين. ولذلك فقد رأى أنه من الأفضل ابتعاث مجموعات كبيرة من الطلاب إلى منبع صناعة البترول للدراسة في مختلف التخصصات العلمية هناك، نظرا للحاجة الملحة إلى وجود مواطنين مؤهلين أكاديميا وعلميا. فعمل ـــ رحمه الله ـــ على إبرام اتفاقية خاصة مع جامعة تكساس لإنشاء مكتب إشراف على الطلبة السعوديين المبتعثين رسميا إلى الجامعة. واتفق مع وزارة المعارف على انتقاء الطلبة المتفوقين والتكفل بإرسالهم والإشراف عليهم. استمر ذلك البرنامج المثمر إلى ما يقارب عشر سنوات.
فإنسان لديه مثل هذا الإحساس والوطنية والنظرة الشمولية فنظن أنه لم تغب عنه فكرة إنشاء مرفق دراسات متخصصة في مجال البترول داخل المملكة. ومما يؤكد أن ولادة الفكرة كانت في زمن وجود الطريقي على رأس العمل، ما ذكره الملك فيصل ـــ رحمه الله ـــ خلال كلمته التي افتتح بها الكلية عام 1963. فقد أشار في حينه إلى أن بداية الحديث عن إنشاء كلية البترول والمعادن كان قد مضى عليه أكثر من سنتين، وهو ما يعني ضمنيا الوقت الذي كان فيه الطريقي وزيرا للبترول والمعادن. ولو كان هناك شخص آخر، غير الطريقي له علاقة بالموضوع، لكان قد أعرب عن شرفه بانتمائه إلى من كان لهم فضل إنشاء الكلية. ومعروف عن الطريقي ـــ رحمه الله ـــ عفته وشهامته وعدم الجري وراء المظاهر. فلم تكن من أولوياته، حسب علمنا، تعداد وذكر إنجازاته الكثيرة والافتخار بها، إذا أخذنا في الحسبان إمكاناته المتواضعة خلال 12 عاما قضاها قبل أن يتقلد المنصب الوزاري، واجه خلالها أقوى وأعتى شركات البترول في العالم. وهذا الحديث لا يبخس حق كل من ساهم بنجاح في تنفيذ مشروع هذا الصرح الأكاديمي الذي يدعو إلى الفخر. فبارك الله المخلصين من أبناء هذا البلد الطيب.