المشراق

أكلة لحوم البشر.. حقيقة أم خرافة؟

أكلة لحوم البشر.. حقيقة أم خرافة؟

يحكى أنه صدر قرار يحظر ذبح المواشي في مصر لعدة أيام، فشكا الشاعر العوضي الوكيل من هذا القرار، وكان من أصدقاء الشاعر محمود غنيم، فنظم الأخير يداعبه هذه الأبيات: قرار الذبائح لما صدر بكي ابن الوكيل بدمع المطر وأقسم ما شم ريح اللحوم ولا ذاقها مــــــــرة في العمــــــر وهل يأكل الكبش لحم الشياه؟ وهل يأكل الثور لحم البقر؟ وما أنت واللحم يا ابن الوكيل بحسبك أكل لــــــحوم البشر يشير إلى ما اشتهر به العوضي الوكيل من كثرة الهجاء في شعره، ويعتبرها غنيم غيبة. وفي القرآن الكريم قال تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه". لعل هذه الحكاية تكون مدخلا لطيفا لموضوع شرس أريد الحديث عنه. اختلف علماء الأنثروبولجيا حول وجود أكلة لحوم البشر، فمنهم من يؤكد هذه المعلومة ويرى أنها حقيقة، ومنهم من ينكرها. ودارت نقاشات طويلة حول هذا الموضوع، وتطوع بعض العلماء للقيام ببحوث ميدانية لإثبات ذلك. وكتب في هذا المجال عديد من المؤلفات والبحوث. والراجح الآن لدى الغالبية هو صحة هذه المقولة. فقد عرف التاريخ أفرادا أو مجتمعات في كل أجزاء العالم كانوا يأكلون لحم البشر. ووجد علماء الآثار دلائل على ارتكاب هذه الفعلة يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف عام. أما الآن، فإن هذه العادة لا تمارس إلا بين القبائل التي تعيش في أماكن معزولة في إفريقيا وآسيا وجزر المحيط الهادئ. ويذكر الرحالة الأمريكي وليم سيبروك أنه قام بمشاركة جماعة في تمبكتو بأكل لحوم البشر، وذكر خصوم الإمبراطور فيدل بوكاسا، رئيس إفريقيا الوسطى أنه كان يأكل لحوم الأطفال. ومن خلال الاستقراء يتبين وجود أفراد أو جماعات عبر فترات التاريخ يقومون بأكل لحوم البشر، وما زالت وكالات الأنباء تفيدنا بين فترة وأخرى عن اكتشاف شخص أو أشخاص يقومون بهذه الجريمة. جاء في الموسوعة العربية العالمية: "كانت معظم حالات أكل لحم البشر، عبر القرون الماضية مرتبطة بالمعتقدات الدينية - يقصد غير السماوية - أو العادات التقليدية. ومعظم آكلي لحوم البشر كانوا يركزون على أكل لحوم معينة من الجسم يسبغون عليها أهمية خاصة. فكان بعضهم، على سبيل المثال، يعتقدون أن للقلب صفات حميدة مثل الشجاعة والحكمة، ولذلك يأكلون قلوب الموتى ليتحلوا بهذه الصفات. وكان سكان الغال القديمة "التي تعرف الآن بفرنسا" يعتقدون أن أكل بعض أجزاء جسم شخص آخر يشفي من الأمراض المختلفة. كان البعض يأكلون بعض أجزاء أجسام الموتى من أقاربهم احتراما وتكريما لهم، وكان السكان الأصليون في أستراليا يعتقدون أن ممارسة هذه العادة تؤدي إلى توثيق الصلات بين الأحياء والأموات من العائلة. وكانت بعض النساء يأكلن جثث أطفالهن بعد موتهم ظنا بأن ذلك يعيد إليهن القوة التي بذلنها لأجنتهن خلال فترة الحمل. كانت بعض المجتمعات تعتقد أن أكل جثث أعدائها تمنع أرواح الموتى من الأعداء من السعي وراء الانتقام. وكان أفراد قبيلة المواري في نيوزيلندا، يطهون جثث أعدائهم ويأكلونها، إمعانا في إذلالهم واحتقارهم كما يظنون. وكانت بعض القبائل في جنوب إفريقيا تعتقد أن أكل جثث أعدائها بعد قتلهم يضفي على أفراد القبيلة الشجاعة والحكمة". وقد حرمت الأديان السماوية جميعها هذه الجريمة البشعة، وإذا كانت هذه الجريمة التي نستطيع أن نقول إنها كانت موجودة بشكل نادر عند بعض الأمم، فإنها شبه معدومة عند العرب قبل الإسلام. أما بعد مجيء الإسلام الذي طهر قلوب العرب والمسلمين فقد جاء تحريمها بشكل قاطع وأصبحت معدومة تماما. وباستقرائنا كتب التراث العربي للبحث عن وجود هذا الأمر عند العرب قبل الإسلام، يتبين لنا فعلا أنه كان شبه معدوم، لكن نجد نصوصا نادرة وقليلة تتحدث عن ذلك، وسبب ذلك في رأيي هو وجود مناقضات بين بعض القبائل تجعلهم يتهمون بعضا بذلك فيتصدى الشعراء لنشر هذه التهمة ولمز الآخرين بهذه الفرية. وربما كان هناك قصص نادرة حدثت فعلا، ولكن لها ظروف معينة، فمن المعروف أن منطقة الجزيرة العربية مرت بظروف قاسية ومجاعات جعلت بعض سكانها يأكلون أوراق الشجر أو لحوم الميتة من الحيوانات أو أكل الحيوانات التي لا تؤكل كالقطط والكلاب وغيرها. وربما حدث أن بعضهم أكل لحما بشريا خشية الموت جوعا، وهذا يحدث في ظروف قاهرة تباح فيها المحرمات، وتحدث في شتى أنحاء العالم. من القصص المعروفة أنه في عام 1972، وبعد تحطم طائرة ركاب على جبال الأنديز، أكل الناجون من الحادث زملاءهم حفاظا على أرواحهم. ونجد لدى الجاحظ في كتابه "الحيوان" نصا مهما يشير إلى اللمز المتبادل بين القبائل في ذلك سأورده راجيا الانتباه إلى أن ذلك ما هو إلا من قبيل التهم والفرى الباطلة. يقول الجاحظ تحت فصل بعنوان "من هجي بأكل لحوم الكلاب ولحوم الناس": "أكل لحوم الناس، وما قيل في ذلك من شعر: وقال معروف الدبيري في أكلهم لحوم الناس: إذا ما ضفت يوما فقعسيا فلا تطعــــم له أبــــــدا طعامــــا فإن اللحم إنسان فدعه وخير الزاد ما منع الحراما وقد هجيت هذيل وأسد وبلعنبر وباهلة بأكل لحوم الناس، قال حسان بن ثابت يذكر هذيلا: إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له فأت الرجيع وسل عن دار لحيان قوم تواصوا بأكل الجار بينهم فالكلب والشاة والإنسان سيان وقال الشاعر في مثل ذلك في هذيل: وأنتم أكلتم شحمة بن مخدم زباب فلا يأمنكم أحد بعد تداعوا له من بين خمس وأربع وقد نصل الأظفار وانسبأ الجلد ورفعتم جردانه لرئيسكم معاوية الفلحاء يا لك ماشكد وقال الشاعر في ذلك في باهلة: إن غفاقا أكلته باهلة تمششوا عظامه وكاهلة وأصبحت أم غفاق ثاكلة ويستمر الجاحظ في إيراد الأخبار والأشعار في هذا المجال. أما في الثقافة الشعبية فإننا نجد عدة نصوص، يسري عليها ما قلناه سابقا أنها بدافع الهجاء والافتراء، أو إنها حوادث فردية حصلت زمن مجاعة لم يجد الناس فيها ما يأكلون. وتحضرني قصة للشاعر سليمان بن شريم (ت 1363هـ)، الذي ذهب مع جماعة في سفر ونزلوا ضيوفا عند شخص لم يقدم لهم طعاما يأكلونه، أو إنه لم يقدم لهم طعاما يليق بهم، فهجاه بقصيدة لامه فيها على سوء تصرفه، وأشار فيها مازحا إلى أنهم قد اضطروا للرحيل والسفر لأن الجوع أهلكهم، وخشوا أن يأكلوا واحد منهم لشدة ما لحق بهم، يقول ابن شريم: ليل صبرنا به وليل سريناه من خوفتي نأكل صغار ردفانا وتنتشر رواية عن امرأة في شمال الجزيرة العربية، أنها كانت تأكل البشر، وقد أقامت في جبل يتيح لها اصطياد فرائسها من البشر، حتى أمر بإحضارها الأمير محمد بن رشيد وقتلها. وهي قصة لا تصح، ولا تعدو أن تكون قد نشأت كدعابة، ثم حيكت قصص حولها حتى ظنها البعض حقيقة. ونجد عند المؤرخ والجغرافي ابن بليهد في كتابه "صحيح الأخبار" خبرا مثل ذلك عن شخص وزوجته قيل إنهما يأكلان البشر. وما أكثر القصص الكاذبة التي تروى ولا تصح.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من المشراق