استغاثات الشعراء واستسقاء العطاش
تذكر الرواية الشعبية الشهيرة أن المطر قد انقطع عن مدينة الحريق، وأن أهلها أرادوا أن يصلوا صلاة الاستسقاء، وجاء الشاعر النبطي الشهير محسن الهزاني ليصلي معهم فمنعوه من مشاركتهم بحجة أنه شاعر غزل، ويخشوا ألا يستجيب لهم الله بسبب وجوده معهم، وصلوا الاستسقاء دون محسن، لكنهم لم يمطروا، وازداد القحط، فما كان من محسن إلا أن جمع أطفال الحريق وخرج بهم خارج البلد، وأخذ يدعو الله بقصيدة شعرية والأطفال وراءه يؤمنون، فاستجاب الله دعاء محسن الشعري، وقد عرفت هذه القصيدة باسم الاستغاثة ومطلعها:
دع لذيذ الكرى وانتبه ثم صل
واستقم في الدجى وابتهل ثم قل
ولا شك أن هذه القصيدة لمحسن، ولا شك عندي أيضا أن الرواية التي تتعلق بالقصيدة هي من صنع خيال الراوي، وهي قصة تتكرر مع عدد من الشعراء قبل وبعد محسن. والقصة من مشهور الموروث الصوفي في بلاد الشام ومصر، يقول مجدي العقيلي في كتابه السماع عند العرب عند حديثه عن فصل "اسق العطاش"، وهو دعاء شعري صوفي شهير: "ينسب هذا الدعاء حسب رأي المرحوم الشيخ علي الدرويش الحلبي إلى شيخ مشايخ الصوفية في عصره وإمام أهل العلم والمعرفة في زمانه الشيخ عبد الغني النابلسي ـــ رحمه الله وقدس سره ـــ، وكان يتعاطى مهنة تعليم الأولاد، اتفق في إحدى السنين أن أمسك الغيث وخرج رجال الطوائف جميعهم إلى الدعاء والاستغاثة، فتفقدوا شيخ الإسلام في عصره الشيخ النابلسي فلم يجدوه بين الداعين، فأرسوا إليه رسولا ليستفسر عن سبب تخلفه، فشاهده الرسول وهو يعلم تلامذته بعض أبيات هذا الدعاء الذي نظمه خصيصا لهذه المناسبة:
اسق العطاش تكرما
فالعقل طاش من الظمأ
يا ذا العطا يا ذا الوفا
يا ذا الرضا يا ذا السخا
اسق العطاش تكرما
ويقال إن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ استجاب دعاء الداعين وأغاث المستغيثين، فأروى عطاشهم بالأمطار الغزيرة، وأنعم عليهم بالخيرات الوفيرة، وأفاض عليهم جزيلا من نعمه.
ولكن هناك من يعارض رأي الشيخ علي الدرويش وهو ما ورد في ديوان الشيخ عبد الغني النابلسي المسمى "سحر بابل وغناء البلابل" إذ ينسب أصل هذا الدعاء إلى الشيخ أبو الوفاء المصري ويقول إن الشيخ عبد الغني قد عارض أبو الوفاء المصري في موشحته (اسق العطاش)، ومعنى ذلك أن الشيخ عبد الغني قد نظم موشحا صوفيا على نهج اسق العطاش ولم ينظم أساس الفصل كما يقول الشيخ علي الدرويش. ومهما يكن من أمر هذا الفصل فإنه آية فنية في نظمه وتلحينه وأدائه ويعتبر من روائع الفنون الصوفية".
هذا ما ذكره العقيلي، لكن هناك رواية يوردها توفيق الصباغ في كتابه "الأنغام الشرقية" وتنسب هذا الفصل إلى محمد المنبجي، يقول الصباغ: "يُروى أنه في سنة 1190هـ 1776 انحبس الغيث عن حلب واشتد العطش فيها، فخرج أهلها إلى البراري يتضرعون إلى المولى عز وجل أن يجود عليهم بالغيث، وكان بينهم موسيقي معروف في ذلك العصر يدعى الشيخ محمد المنبجي "لعله أحد أحفاد الشيخ عقيل" فلحّن هذا الفصل واستهله بالدعاء والتضرع، وكان ينشده هو وتلاميذه وأوله:
يا ذا العطا. يا ذا السخا
اسق العطاش تكرما
فالعقل طاش من الظما.
وذكر بعضهم أن المنبجي هذا أخذ أهل حلب إلى هضبة حلب وأنشد هذا الشعر، فمطروا بعده مباشرة. وقد شاع هذا الابتهال الصوفي في سورية، وأصبحوا ينشدونه كلما انقطع عنهم المطر، حتى ترك كثير منهم صلاة الاستسقاء. وذكر بعضهم أن الشيخ علي الطنطاوي ــــ رحمه الله ــــ دعا في سورية عام 1380هـ إلى إقامة صلاة الاستسقاء بعد أن هجرت منذ وقت طويل عند حلول القحط والجدب واستبدل بها أبيات شعرية يتراقصون عليها. وأورد أبياتا من فصل اسق العطاش. فإذا تبين لنا أن القصة من الموروث الصوفي، وعرفنا أنه كان للتصوف وجود في نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـــ رحمه الله ـــ فإن الربط بين الأمرين ليس بعيدا.
وقد ذكرت القصة نفسها التي تروى عن محسن الهزاني في سيرة شاعرين نبطيين آخرين، وكلاهما قد نظم قصائد استغاثة. وما دمنا في موضوع الاستغاثة، وما دام الشيء بالشيء يذكر، فقد ذكر الراوية والشاعر الراحل منديل الفهيد ـــ رحمه الله ـــ أن الشيخ عبد المحسن الفرم حدثه أن المطر قد انقطع عن أرض قبيلته، وعدم الماء، حتى بكى النساء والأطفال من شدة الظمأ، فابتعد الفرم عن جماعته، وجلس وحيدا يدعو الله أن يغيثهم وينقذهم، ولم تمض لحظات قليلة حتى جاءت سحابة أمطرت عليهم، ولم تجاوزهم إلى من سواهم.
ويورد التنوخي في كتابه "الفرج بعد الشدة" هذا الخبر: "ذكر المدائني في كتابه: قال أبو سعيد، وأنا أحسبه يعني الأصمعي: نزلت بحي من كلب مجدبين، قد توالت عليهم السنون، فماتت المواشي، ومنعت الأرض من إخراج النبات، وأمسكت السماء قطرها، فجعلتُ أنظر إلى السحابة، ترتفع من ناحية القبلة، سوداء متقاربة، حتى تطبق الأرض، فيتشوف لها أهل الحي، ويرفعون أصواتهم بالتكبير، ثم يعدلها الله عنهم مرارا. فلما كثر ذلك خرجت عجوز منهم، فعلت نشزا من الأرض، ثم نادت بأعلى صوتها: يا ذا العرش، اصنع كيف شئت، فإن أرزاقنا عليك. فما نزلت من موضعها حتى تغيمت السماء، غيما شديدا، وأمطرت مطرا كاد أن يغرقهم، وأنا حاضر".