من أين بدأ مدفع رمضان .. من القاهرة أم دمشق؟
من العادات المنتشرة في العالم الإسلامي منذ قرون: عادة مدفع رمضان، والغرض منه الإعلان عن وقت الإفطار مع آذان المغرب، ويكون هناك في بعض الدول ضرب للمدفع وقت الإمساك مع آذان الفجر.
والمشهور أن مدينة القاهرة هي أولى المدن الإسلامية التي عرفت هذه العادة، لكن هناك من يرى أن مدينة دمشق سبقت القاهرة في هذه العادة، مستدلين بالحوادث التاريخية المحفوظة والثابتة عن ضرب المدفع في دمشق، وأنها سابقة على حوادث ضربه في القاهرة. لكن يلاحظ أن الحوادث المتقدمة عن ضرب المدفع في دمشق كانت عند ثبوت هلال رمضان، بينما الحوادث المتعلقة بالقاهرة تدل على ضربه بشكل يومي عند موعد الإفطار. وحاولت أن أبحث عن أصل هذه العادة ومتى بدأت، لكنني لم أجد معلومات موثوقة في مصادر متقدمة تبين البداية الحقيقية لمدفع رمضان. وتتحدث مراجع متأخرة، دون إسناد ومصدر، عن أن هذه العادة بدأت مع السلطان المملوكي الظاهر خشقدم، الذي حكم مصر عام 865هـ حتى وفاته عام 872هـ، وأن هذا السلطان أراد أن يجرب مدفعا جديدا جاء إليه، فصادف ذلك وقت آذان المغرب في رمضان، فظن الناس أنه أراد تنبيههم إلى موعد الإفطار، وأعجبوا بالفكرة الجديدة وشكروا السلطان عليها، فاستمر بها. وحادثة تجربة المدفع أوردها ابن تغري بردي (874هـ) وهو معاصر لها في كتابه "حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور"، وذكر أن المدفع صرخ بين يدي السلطان خشقدم في أواخر رمضان أكثر من مرة، وأن الذي سبك المدفع للسلطان هو إبراهيم الحلبي بقلعة الجبل. لكن لم يورد ابن تغري بردي أي كلام يدل على أن أهل القاهرة طلبوا من السلطان أن يكون ضرب المدفع عادة يومية لتنبيههم إلى موعد الإفطار.
وهناك من يروي قصة مشابهة للقصة السالفة، ولكن يقولون إنها حدثت في عهد الخديوي إسماعيل، الذي حكم مصر عام 1279هـ / 1863.
ومن المؤكد أن الرواية الأخيرة غير صحيحة، لأن ضرب مدفع رمضان كان معروفا قبل فترة الخديوي إسماعيل بزمن، إذ يذكر ابن كنان في "يوميات شامية" في حوادث سنة 1129هـ، أن المدافع ضربت لما ثبت هلال رمضان، أو على حد تعبيره: "ثبت هلال رمضان، وضرب كم مدفع". كما أن مدفع العيد كان يضرب في مصر طيلة أيام الاحتلال الفرنسي (1798 - 1801) على ما ذكر الجبرتي في تاريخه، وفترتهم سابقة على حكم الأسرة العلوية في مصر، وسيأتي أن ريتشارد بيرتون سمع مدفع الإفطار في القاهرة عام 1853، قبل عهد الخديوي إسماعيل. ويسمى مدفع رمضان عند بعض أهل مصر "مدفع الحاجة فاطمة"، واشتهر في الثقافة الشعبية المصرية أن فاطمة هذه هي بنت الخديوي إسماعيل، وهناك من يقول إنها زوجة السلطان خشقدم. وقد عرف مدفع رمضان في كثير من أقطار العالم الإسلامي، وذكر سنوك هورخرونيه، الذي زار مكة المكرمة عام 1884، مدفع رمضان ضمن عادات أهل مكة الرمضانية. ويقول أحمد ماهر محمود البقري في رحلاته: "جرت عادة المسلمين قرب أذان المغرب في رمضان الجلوس بالحرم وقد أعد كل منهم بعض التمر ونوعا من الخبز وربما قليلا من القهوة يتبلغون به عند مدفع الإفطار". ويتحدث محمد لبيب البتنوني (1357هـ) في "الرحلة الحجازية" التي قام بها أواخر عام 1327هـ / 1909، عن عادات أهل المدينة المنورة فيقول: "ومن عاداتهم في شهر رمضان أنهم يتوجهون إلى الحرم قبل المغرب بنحو ساعة ويجلسون حول الحجرة الشريفة، ويمضون بقية نهارهم في قراءة القرآن الشريف والذكر والصلاة على الرسول. فإذا ضرب مدفع الإفطار يكون حضر لكل واحد منهم صينية فيها إفطار خفيف كالفطير والجبن والزيتون والبلح والحلوى وما أشبه ذلك فيفطر كل منهم مع من يدعوه إلى طعامه من الغرباء، ثم يعطي بقية أكله إلى من هنا لك من الفقراء". ومن النصوص المتقدمة عن مدفع رمضان ما ذكره البديري الحلاق في حوادث دمشق اليومية، في حوادث سنة 1155هـ، إذ قال: "وكان هلال رمضان في هذه السنة نهار الإثنين وأثبت بعد العشاء، وأشعلت القناديل في سائر مآذن الشام، وضربت مدافع الإثبات في منتصف الليل، وحصل للناس زحمة في حركة السحور، حتى فتحت دكاكين الطعام ليلا كالخبازين والسمانين". كما ذكر ضرب المدافع عند ثبوت هلال رمضان في العام الذي يليه.
ويصف ريتشارد بيرتون، الرحالة الإيرلندي، الذي زار مصر عام1853، مشاهداته للقاهرة في رمضان، فيذكر أنه عند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطل الناس من النوافذ والمشربيات، تنتظر لحظة انطلاق مدفع الإفطار من القلعة، ويجلجل صوت المؤذن جميلا، داعيا الناس إلى الصلاة، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية (سراي عباس باشا الأول) وتعم الفرحة أرجاء القاهرة التي كانت صامتة.
أما كور نيلا دالنبرج، وهي واحدة ممن خدمن في الإرسالية الإنجيلية الأمريكية كممرضات ومدرسات في البحرين عام 1922، وعرفت باسم شريفة الأمريكانية، فتتحدث في مذكراتها اليومية عن مظاهر شهر الصيام في البحرين، وتذكر أن مدفع رمضان كان يدوي الساعة الثالثة والنصف من كل صباح إيذانا ببدء يوم صيام جديد.
وتذكر سالمة بنت سلطان عمان وزنجبار سعيد بن سلطان، التي غادرت بلدها زنجبار عام 1867، وتسمت بعد زواجها وتنصرها بإميلي روث، أن الإمساك في رمضان يبدأ عند أهل زنجبار مع سماع طلقة المدفع من سفن السلطان. وهناك نصوص تاريخية أخرى تتحدث عن عادة مدفع رمضان في مدن إسلامية أخرى، لو أوردتها لطال المجال. وبالإجمال فإن هذا المدفع أصبح سمة من سمات شهر رمضان الكريم في الدول الإسلامية. وكنا نسمع صوت هذا المدفع في مدينة الرياض قبل عام 1400هـ وبعيدها بشكل يومي، إلا أن ضخامة الرياض بعد ذلك وضجيجها سلبنا هذا السماع، فلا أدري استمرت هذه العادة أم انقطعت؟. وربما كان انتشار المساجد في بعض المدن والقرى سببا في التخلي عن المدفع. وهذه العادة مستمرة في مكة المكرمة إلى اليوم، وقبل عدة أشهر صدرت موافقة المقام السامي على إعادة مدفع رمضان إلى المدينة المنورة ابتداء من رمضان هذا العام 1436هـ، بعد انقطاع جاوز العقدين.