شكيب أرسلان من لوزان إلى الحجاز
من لوزان بسويسرا مروراً بنابولي التي أبحر منها على ظهر سفينة بريطانية إلى بور سعيد، وبعد مبيت ليلة فيها توجه إلى السويس ليبحر منها على ظهر باخرة تحمل 1300 راكب جلّهم من المصريين وبعضهم من المغاربة، ويصل بعد أربعة أيام إلى مدينة جدة يوم السبت 2 ذي الحجة 1347هـ/ 12 مايو 1929م.
هذه بداية رحلة أمير البيان شكيب أرسلان (1286- 1366هـ/1869- 1946م) إلى البيت العتيق، وقد وصفها بكتاب صدرت طبعته الأولى بداية عام 1350هـ، تحت عنوان “الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف”، وأهداه إلى الملك عبدالعزيز تقديراً لنشره الأمن والعدل في ربوع بلاده، ولصيانته حق العروبة وحقائق الإسلام. والرحلة معروفة للباحثين، لذا لن نركز على عرضها كاملة، بل سيقتصر ذلك على بعض ملامحها مع التهميش عليها بمعلومات لم ترد في ثناياها.
ما إن يصل الأمير إلى جدة حتى يسحره بحرها الذي لم يشاهد نظيراً له بين البحار والمحيطات في “البهاء واللمعان”، ويشبّه خطوطه في تعدد ألوانها بـ”قوس قزح” أو “ذيول الطواويس”. ثم يحكي لربّان السفينة رأيه في ميناء جدة وبحرها، ليجد أنه أكثر افتتانا بمناظره البديعة التي لا توجد إلا في هذا المكان. أما في المدينة فيرى بناءها كأنه من القرون الوسطى، ويسجل إعجابه بالرواشن: “نجارة الأبنية فيها راقية. وهذه الرواشن الكثيرة اللطيفة التي أعجبت الكولونل لورانس الانجليزي -يوم جاء جدة في الحرب الكبرى- وقد أعجبتني أنا أيضا”. أما الشعور المعنوي الرائع لشكيب أرسلان، الذي رأى طيلة سنوات عديدة دولنا العربية والإسلامية خاضعة للاستعمار، فيصفه بشعور صادق: “شعرت منذ وطئت بقدمي رصيف جدة أني عربي حر في بلاد عربية حرة. شعرت أني تملصت من حكم الأجنبي الثقيل الملقي بكلكله على جميع البلاد العربية -ويا للأسف- حاشا مملكتي الإمامين عبدالعزيز ابن سعود، ويحيى بن محمد حميد الدين... شعرت أني حر في بلادي وبين أبناء جلدتي، لا يتحكم في رقبتي المسيو فلان ولا المستر فلان...إني خاضع لحكومة عربية بحتة رأسها وأعضاؤها مني وإليَّ، وأنا منها وإليها، وبعبارة أخرى إني هنا خاضع لنفسي، وإن كل من أراه من رعاياها إنما هو خاضع لنفسه... شعرت أن رئيسي هنا هو ابن جلدتي الذي يغار علي كما أغار على نفسي، وأن الجند الذي يحيط بي ويحفظ الأمن علي وعلى غيري هم ممن اجتمع وإياهم في أرومة واحدة... شعرت في الحجاز أني تظللني راية عربية محضة حقيقية”.
###مع الملك عبدالعزيز
ثم يلتقي أميرنا بمن ملأ قلبه إعجاباً وتقديراً، الملك عبدالعزيز، لترى عينه فوق ما سمعت أذنه. وقد طرّز الأمير رحلته بسطور متعددة في أماكن متفرقة في وصف الملك عبدالعزيز والثناء عليه.
رافق رحالتنا الملك في ذهابه من جدة إلى مكة، فركب إلى يساره في “الاوتومبيل”، ولا ينسى أن يسجل لنا أن أهل الحجاز يسمونه بالسيارة والموتر، بينما نسي أن يسجل لنا الأهم وهو الحوار الذي دار في السيارة. في هذا الطريق لفت نظره أنه لم ير “من أولها إلى ما يقارب آخرها غصناً أخضر يلوح، ولا رقعة بقدر الكف خضراء”.
في مكة
وصل مكةَ، وانتابه الشعور الروحاني الذي ينتاب كل مؤمن يزورها، ففاضت العبرات، وخفقت الجوانح من شدة الوجد، وغلبة الهيام، وانطلق قلمه السيَّال في الحديث عن فردوس العبادة في الأرض، وجنة الدنيا المعنوية. ويعلق على دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام: “فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون”، فيذكر أن المجلوب إلى مكة من أصناف الحبوب والخضراوات والفواكه والمحمول إليها من البضائع والمتاجر واللباس والفراش والرياش والطيب وغير ذلك يفوق ما يجلب إلى عشر مدن من أمثالها في عدد السكان. وقد أسهب في الحديث عن مكة ومياهها وأوقافها ومطوفيها وبعض أعيانها.
في مكة أقام في منزل فؤاد حمزة، وكيل الشؤون الخارجية، حيث دارت بينه وبين البعوض معارك ضارية لم يستطع خلالها النوم رغم جهود فؤاد حمزة المضنية لمساعدته، ولكن لا جدوى وقد اجتمع البعوض والحر على من اعتاد الحياة في أجواء معتدلة أو باردة بين لبنان وسويسرا فحرماه النوم. وقد عانى غلام رسول مهر -أحد علماء الهند، وحج في السنة التي حج فيها شكيب- البعوض مثلما عانى صاحبنا. وخلال هذه الأيام أقام له الشيخ عبدالله السليمان، وزير المالية الشهير، وليمة ضخمة في الشهداء، يصفها شكيب أرسلان ويصف حضورها بعدة سطور من ضمنها: “فكانت ليلة ندر أن يعرف الناس مثالها، وقال فيها أحد الإخوان إنها ليلة من قبيل قصص ألف ليلة وليلة”. كما أقام فؤاد حمزة وعباس قطان وعبدالله الشيبي وغيرهم ولائم له خلال وجوده في الحجاز.
###في الطائف
ما إن أنهى فريضة الحج، حتى انتقل إلى الطائف، التي حازت على قسم كبير من رحلته، وأقام فيها أكثر من ثلاثة أشهر. وزار المدينة المنورة خلال هذه الرحلة.
#2#
كان الأمير شكيب أرسلان سجل في إهدائه إعجابه بالأمن والعدل في دولة الملك عبدالعزيز، كما كرر ذلك في رحلته وغيرها، وأثناء إقامته في الطائف يورد خبراً يستحق التأمل عن هيبة الحكم والأمن في هذه الدولة، فيذكر أنه في أثناء صعوده بالسيارة من مكة إلى الطائف سقطت عباءة أحسائية سوداء له في أرض لقيم دون أن ينتبه لها، فأخذ الناس يمرون فيرون هذه العباءة ملقاة على قارعة الطريق فلا يجرؤ أحد أن يمسها، وكذلك القوافل... “فكانت هذه العباءة على الطريق أشبه بأفعى يفر الناس منها، بل لو كانت ثمة أفعى ما تجنبوها هذا التجنب كله”.. إلى أن وصل خبرها إلى أمير الطائف الشيخ محمد بن عبدالعزيز آل الشيخ، المعروف بلقب الصحابي، فسأل وتحقق حتى عرف أنها لشكيب فزاره، وتأكد منه عن ضياعها، ثم أعادها إليه. ويعلق أمير البيان بعدها: “وقد أتيت على هذه النادرة هنا مثلا من أمثال لا تعد ولا تحصى من الأمن الشامل للقليل والكثير في أيام ابن سعود مما لم تُحَدّث عن مثله التواريخ حتى اليوم. فالمكان الذي سقطت فيه العباءة كان في الماضي كثيراً ما تقع فيه وقائع السلب والقتل ولا يمر الناس فيه إلا مسلحين. فأصبح إذا وجدت لقطة هناك على قارعة الطريق تجنب الناس الطريق لئلا يتهموا بها إذا فقدت... وإنك لتجد هذا الأمن ممدود الرواق على جميع البلدان التي ارتفعت فيها راية ابن سعود... ولو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الآمنة الشاملة الوارفة الظلال، على الأرواح والأموال، التي جعلت صحاري الحجاز وفيافي نجد آمن من شوارع الحواضر الأوربية لكان كافياً في استجلاب القلوب إليه، واستنطاق الألسن في الثناء عليه”. ولا تقل غرابةً عن هذه القصة، تلك التي حدثت للأديب المصري الشهير إبراهيم عبدالقادر المازني، الذي جاء إلى الحجاز بعد شكيب بعدة أشهر، وسقطت منه عصاه في الطريق بين مكة وجدة، قرب الرغامة، وما كاد يصل مكة مع رفقائه حتى اتصل بهم مدير الشرطة يسألهم: هل ضاع لكم عصا! وما هي أوصافها؟. ويعلق المازني على القصة واصفاً الأمن الشامل في تلك الفترة في ظل حكم ابن سعود، وأن لا أحد يجرؤ على السرقة أو أخذ لقطة في الطريق، حتى تجدها الشرطة وتعلن عنها في الجريدة الرسمية كي يأتي صاحبها ويستلمها. وفي الفترة نفسها يقول الصحفي المصري محمد المصيلحي عبدالله من جريدة كوكب الشرق: “إن من المدهشات التي بهتت أنظار العالم أجمع هذا الأمن المنشور لؤلؤه على ربوع الحجاز، وهذا الأمن الذي لا مثيل له في أي قطر...”.
في الطائف عرف شكيب أرسلان أميرها الشيخ الصحابي، فكان رأيه فيه مطابقاً لما سمعناه من شيوخنا الذين عرفوه حق المعرفة: “هو نسيج وحده في أخلاقه وتقواه وورعه، ونقاء سريرته وزكاء سيرته، فقد ندر أن ينعقد الإجماع على حب والٍ انعقاده على حب أمير الطائف، الذي لم أسمع من أحد من أهالي هذه البلاد -حضرها ووبرها- إلا نغمة واحدة بحقه، وهي الثناء الجميل، ولحسن أخلاقه واستقامة طباعه يلقبونه ’بالصحابي‘، وقد أقمت بالطائف زهاء أربعة أشهر وهي مدينة صغيرة لا يخفى فيها شيء فما عرفت عن هذا الملقب بالصحابي إلا ما يثبت لهذا الرجل مثل أخلاق الصحابة”.
وأثناء إقامته في الطائف زارها الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاة بمكة، فرأى بجانب ضريح عبدالله بن عباس رضي الله عنه شجرة صغيرة فأمر بقطعها خشية أن يتبرك العوام بها. وفي هذه المدينة حاول شكيب التوصل إلى مكان سوق عكاظ، وكتب في رحلته بحثاً عنه.
جاء شكيب أرسلان أواخر سنة 1347هـ، أي بعد شهرين من هزيمة الملك عبدالعزيز للثائرين عليه من الإخوان في السبلة، ومن الطبيعي أن يسمع من الناس كلاماً عنهم، ويحاول فهم عقليتهم وأفكارهم، فكتب عَرَضَاً عنهم بما يدل على رفضه لبعض أفكارهم.
وغادر الحجاز متوجها إلى أوروبا على ظهر سفينة إيطالية يوم الجمعة 9 ربيع الثاني 1348هـ/ 13 سبتمبر 1929م، بعد أن حضر وليمة الإفطار التي أقامها له الشيخ محمد نصيف في جدة.
###على هامش الارتسامات
صدرت الطبعة الأولى من كتاب حاضر العالم الإسلامي، بتعلقيات شكيب أرسلان قبل ذهابه للحج ولقائه بالملك عبدالعزيز، ومقدمة شكيب لهذا الكتاب كتبت في 25 شعبان 1343هـ، وكان مما قاله في تعليقاته عن الملك عبدالعزيز، أو بالأصح سلطان نجد: “وهو في الواقع ممن تنعقد بهم آمال الأمة العربية، فعسى أنه لا يخيبها وأن يوفق إلى تحقيقها”. أما في الارتسامات فيقول بعد أن قابل عبدالعزيز: “وتفاءلت خيراً في مستقبل هذه الأمة”.
احتفت جريدة أم القرى -جريدة السعودية الرسمية- بزيارة الأمير شكيب أرسلان، فكتبت بعض أخباره في عدة أعداد. ويبدو أنه كتب فيها مقالة مطولة في العدد رقم 230 الصادر يوم الأحد 17 ذي الحجة 1347هـ، وعنوان المقالة: “مأدبة ملوكية فاخرة”، وذكرت الجريدة أنها بقلم أمير من أمراء البيان حضر المأدبة الملوكية. وأسلوب المقالة هو أسلوب شكيب أرسلان، وإشارة الجريدة إلى لقبه، تؤيد أنه الكاتب. وورد في المقالة أن شكيب أرسلان حضر المأدبة، ووضع قبل اسمه بين قوسين ثناء عليه: “سعادة كاتب الشرق الأكبر الأمير”، ووضع هذه الجملة بين قوسين توحي بأنها من زيادات الجريدة ولم يكتبها هو. وفي العدد 245 الصادر بتاريخ 25 ربيع الأول 1348هـ/ 30 أغسطس 1929م، نجد المقالة الافتتاحية بقلم شكيب أرسلان. كما نشرت بعدها بأسبوعين في صفحتها الأولى من العدد 247 نماذج من خطب وكلمات شكيب أرسلان التي ألقاها في الحفلات التي أقيمت له في مكة.
جاء شكيب إلى الحجاز مرة أخرى ضمن وفد الصلح بين الملك عبدالعزيز والإمام يحيى حميد الدين، ووصل إلى جدة قادما من السويس في 2 محرم 1353هـ، ثم ذهب إلى مكة والطائف، وغادر جدة إلى اليمن في 30 صفر 1353هـ. وأثناء إقامته في الحجاز التقى بعالم نجدي شهير، هو الشيخ عبدالله بن سليمان بن بليهد (تـ 1359هـ)، ولهذا العالم مكانة كبيرة عند الملك عبدالعزيز والعلماء وعامة الناس، وأعجب شكيب بابن بليهد، ومن الواضح أنه دارت بينهما نقاشات متعددة.
وحين كتب شكيب تعليقاته على الجزء الأول من تاريخ ابن خلدون المطبوع عام 1355هـ، كانت إحداها عن الأنساب، وقال ضمنها: “وأخبرني العلامة النسّابة الشيخ عبدالله بن بليهد قاضي قضاة المملكة السعودية أن ما ذكرته عن قبائل الحجاز هو أصح ما اطلع عليه”. ويقصد ما ورد في الارتسامات اللطاف. ولقاء العالمين كان في الرحلة الثانية، وكان الشيخ ابن بليهد في حائل، ثم جاء إلى الطائف منتصف شهر صفر 1353هـ، وكان شكيب أرسلان فيها، وقد جاء بنسخ من رحلته الارتسامات، وأهدى نسخاً منها لبعض الأمراء والعلماء، وفي مكتبة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود (تـ 1396هـ) نسخة من ارتسامات شكيب بتوقيعه وإهدائه بتاريخ 4 محرم 1353هـ. ومن المؤكد أن الشيخ ابن بليهد قد اطلع على هذه الرحلة، إما عند شكيب أو غيره، وقد يكون أهدى له نسخة. ويحتمل أنهما التقيا في كلتا الرحلتين. وممن تحدث عن الشيخ ابن بليهد الأديب الشهير محمد حسين هيكل في كتابه “في منزل الوحي”، وذكر أنه عالم نجد الزاهد بالدنيا وزخرفها، وخليفة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأنه روح الحركة السلفية في زمانه، وأنه موضع التبجيل والاحترام من الملك عبدالعزيز وجميع النجديين. ومما يروى عن هذا العالم الجليل ابن بليهد أنه من أوائل من جابوا البلاد السعودية بسيارة أهداها له الملك عبدالعزيز، وحدث أنه دخل بسيارته إحدى القرى، ولم يكن بعض أهلها قد رأى السيارة من قبل، ومن شدة احترامهم لهذا العالم أرادوا إكرام سيارته ظناً منهم أنها دابة، فقدموا لها القت لتأكله.
ولأمير البيان مذكرات توصف بضخامتها، لعلها إن نشرت تكشف عن أشياء من حياته في المملكة العربية السعودية، وعلاقته بملكها وأمرائها وعلمائها وأعيانها.