التطرف الديمقراطي

هل الديمقراطية الغربية حرية منفلتة؟ هل مفهوم الحرية ثابت أم نسبي حسب قيم كل مجتمع؟ وهل الديمقراطية الغربية شرط للتقدم ورقي المجتمعات النامية؟ هل شرعنة القتل باسم تطبيق الديمقراطية أمر مقبول؟ هذه تساؤلات مطروحة في ظل الصراع الثقافي بين الغرب والأمة الإسلامية، إضافة إلى أزمة الهوية التي تعانيها المجتمعات الإسلامية، المتمثلة في الفجوة الكبيرة بين قيم الشريعة الإسلامية وفهمها فهما صحيحا وتطبيقها على أرض الواقع سواء كان ذلك على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات الرسمية. والمشكلة عندما يصوَّر الإسلام على أنه دين في المفهوم الغربي وليس منهج حياة يشمل النواحي السلوكية للأفراد والعلاقات الاجتماعية والتعاملات الاقتصادية والحكم والسياسة. هذا التصور الضيق للإسلام من قبل بعض المسلمين والمجتمعات الغربية هو سبب الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية. وأمر آخر على المستوى ذاته من الأهمية، وهو أن الإسلام وإن تشابه في بعض قيمه الكلية مع المنهج الغربي في القيم والاحتياجات الإنسانية، إلا أنه يختلف في تفسير تلك القيم والاحتياجات. فعلى سبيل المثال الحرية مطلب إنساني وحق أساسي وينادي بها الإسلام ويؤكد عليها في جميع مصادره، بل إنه يكفل حرية المعتقد وهي أعلى درجات الحقوق ومحور الخلاف بين الناس "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ..."، وبهذا الحق الأبلج ومن مشكاته خرجت كلمات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟". إن الاختلاف بين الإسلام والغرب هو في تحديد مدى الحرية، فالإسلام ينطلق من ضرورة الموازنة بين حرية الأفراد وحفظ حقوق الجماعة وتحقيق المصلحة العامة، فالفرد حر طالما أنه لم يتعدَّ على حقوق الآخرين ولم يفسد الاجتماع ولم يجلب ضررا للمجتمع تطبيقا لقاعدة "لا ضرر ولا ضرار". وهنا تقع نقطة الخلاف بين مفهوم الحرية في الإسلام ومفهومها لدى الغربيين. فالحرية في التشريع الإسلامي مقيدة لا تعتمد فقط على تراضي الأفراد وإنما يجب أن تكون في إطار أخلاقي اجتماعي حفاظا على التناغم بين تحقيق احتياجات الفرد والمجتمع. فعندما يحرم الإسلام العلاقة الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية، فإنه يحفظ بذلك حقوق الطرفين وفي الوقت ذاته يجنب المجتمع السلبيات الاجتماعية والصحية الناتجة من تلك العلاقات غير الشرعية. ولذا وتجنبا للوقوع في هذه الرذيلة، يضع الإسلام سياجا من المحاذير الأخلاقية والمعايير التي تبعد الفرد عن الممارسات الخاطئة التي تجلب الأمراض والجريمة والفقر والاختلال الاجتماعي. ولكن هذا السياج في نظر الديمقراطية الغربية هو سجن يحدّ من الحرية الفردية ويقيدها، خاصة أنها ضد مبدأ تراضي الطرفين وما يحقق المنافع المتبادلة فيما بينهما. هذا اختلاف فلسفي وجوهري يطول جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية ولا يقتصر على الناحية الاجتماعية. فمعلوم أن النظم السياسية الديمقراطية تعتمد على حكم الأغلبية في إصدار التشريعات، ما يعني الاعتماد على توجهات العموم ورغباتهم وأهوائهم بغض النظر عن المصلحة الجماعية، فعلى سبيل المثال تبيح تشريعات تلك المجتمعات المسكرات، وزواج المثليين، وحتى بعض أنواع المخدرات، كل ذلك تحقيقا للهوى الفردي. وما يزيد من مشكلة النظم الديمقراطية هو السماح لجماعات المصالح بالتأثير في القرار العام، ولا شك أن هناك تفاوتا في مستوى التأثير بين تلك الجماعات، فمن يملك المال والإعلام تكون له اليد العليا في توجيه السياسات الحكومية، فها هي الدول الغربية على ما تمتلكه من صناعات وتقدم تقني وقوة عسكرية لعبة في يد جماعات الضغط الصهيونية، فلا يقوى السياسيون الغربيون في ظل نظمهم الديمقراطية على الاعتراض وقول الحق، لأن طبيعة النظام الديمقراطي الغربي مبنية على مبدأ "فرِّق تسُدْ" من خلال الفصل بين السلطات وتطبيق اللامركزية، ما يضعف السلطة العامة.
هذا جميعه يفرز إرهابا ديمقراطيا ـــ إن صح التعبير ـــ يكون فيه الحكم للأقوى وليس الأصلح والأحق، تماما كما في قانون الغاب! فلا مكان للضعفاء والأقل حظا حتى مع وجود قنوات للتعبير، لأن المنافسة السياسية واجتذاب القرار لمصلحة الجماعة يتطلبان إمكانات اقتصادية وإعلامية. فنظامهم السياسي كما اقتصادهم السوقي مبني على مبدأ مَن يملك يسيطر. وهذا يفسر وبشكل واضح لماذا لا يسمح في المجتمعات الغربية التعرض بالإساءة للسامية والجالية اليهودية لا من قريب ولا من بعيد، بينما يسمحون ببجاحة وسماجة وجهالة وباسم حرية التعبير "اللاأخلاقية وبانتقائية" بالإساءة إلى نبي العالمين. وعلى اعتبار أن المجتمعات الغربية مجتمعات قانونية ومتحضرة وعقلانية تبرز هنا عدة تساؤلات: لماذا هذه الرسوم السيئة؟ وما القصد منها؟ وما الفائدة التي تجنيها مجتمعاتهم؟ ولماذا التعدي على مشاعر الآخرين وما يعتبرونه مقدسا؟ ليست هناك إجابة سوى أنها للتهكم والسخرية والتقليل من قدر الآخرين وإذلالهم وإرهابهم فكريا، لتكون النتيجة إيجاد التطرف المقيت لدى الآخر والدخول في دائرة الشر والعداء والإخلال بالسلم الاجتماعي. ولا شك أنه جزء من نهج مستمر لاستفزاز الجالية المسلمة بإثارة قضايا حساسة كما في حالة منع الحجاب، وهي قضايا لا تتقاطع مع قوانينهم ولا تشكل ضررا على أحد. هم يحتجون بأن دولتهم علمانية، الناس أمام القانون سواسية وتكفل حرية التعبير للجميع دون تفرقة، وإذا كان كذلك فهل التعدي على رموز ومشاعر الآخرين من القانون والحرية والعدالة والتحضر في شيء؟ أم هو التطرف الديمقراطي الذي ظاهره الرحمة والتحضر وباطنه العذاب والحقد والكراهية؟ إن الحرية المنفلتة التي لا تراعي حقوق الآخرين هي في واقع الأمر فوضى تختلط فيها الأمور ولا يعرف فيها الحق من الباطل تثير الشغب وتوجد الفرقة والكراهية وتؤجج الصراعات وتؤدي إلى تصرفات دموية تعكس حال الحنق والاحتقان لدى المعتدى عليهم. لقد سقطت الديمقراطية الغربية في الاختبار الحاسم عندما لم تتمكن من استيعاب المختلف، وجعلت تمارس سياسات انتقائية وتبتعد عن العدل والموضوعية والحيادية بحجج واهية تنم عن هشاشة نظامهم الديمقراطي. إن ديمقراطيات لا تحقق العدل هي خطر على السلم العالمي، فها هم يؤيدون دولة الاحتلال الصهيوني، ومن قبل ذلك قتلوا الملايين في حربين كونيتين وفي صراعات دولية في كل زوايا المعمورة وما زالوا يمارسون إرهابهم الديمقراطي!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي