سوء الظن وقود الفتن

عندما يمزح الصديق أمام مجموعة من الأصدقاء في تفسير تصرف أحدهم، فإن المعتاد عليه في مجتمعنا بناء التفسير المزحي على سوء الظن، لا حسنه. هذا يبين تغلغل ثقافة سوء الظن في مجتمعنا.
سرعة الاتهام، وسرعة الشك، وسهولة فتح الأذن لسماع الوشاة، وسرعة تصديق الأخبار السلبية، والميل للجانب السلبي في تناول الأخبار وتفسير التصرفات، كلها عبارات ذات معان متشابهة. والجامع بينها سوء الظن. وسوء الظن يعني تلقائيا إصدار الحكم ولو ظنا على الآخر، قبل التأكد من ثبوت التهمة أو الخبر.
الفتن تحيط بنا. ومن آخرها فتنة تنظيم داعش، وما يحيط بها من تأويلات وتفسيرات. ولي أن أدعي أن هذا المسلك، أعني سوء الظن، هو الوقود الأول لنشأة وتطور الفتن عبر تاريخنا الإسلامي، منذ الفتنة الأولى التي انتهت بقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-. فالثوار تجمعوا على أمر، وألبوا الناس على الخليفة ثم قتلوه، وفتحوا باب شر كان مغلقا، بناء على تهم وظنون يغلب عليها أو على بعضها المبالغة، وبعضها لم يثبت أصلا، بل مهارة في اختلاق قصص أو تحريفها.
التاريخ أعاد وما زال يعيد نفسه تكرارا ومرارا. لو كان الناس يتثبتون قبل تصديق الأخبار والروايات وإصدار الأحكام على الآخرين، لما وجدت الفتن سبيلا لها أصلا. والقصد بالتثبت التأكد من صحة ودقة المعلومات، وكذلك العدل والنزاهة في الحكم على الأفراد والمؤسسات بغض النظر عن الرأي الشخصي في المحكوم عليه. لكنه خلق سوء الظن المسيطر الذي يزين للناس في مجتمعاتنا حب اتهام الآخرين.
درست في الغرب سنين طويلة، وكنت أسأل من يقدمون للدراسة من بلادنا العربية، بعد وصولهم بأسابيع قليلة، كنت أحيانا أسألهم عن أول انطباع يدركونه في تعاملهم مع الناس، خاصة في الأسواق ومع البائعين؟ فكان الجواب الأول عادة أن حسن الظن هو الأصل، بعكس السائد في بلادنا. ندرك ذلك أيضا في أروقة الجامعات وقاعات المحاضرات.
كثيرا ما أتساءل: لماذا لم يستطع العرب، بل لم يستطع نحو مليوني فلسطيني، يعيشون في إسرائيل، لماذا لم يستطيعوا إثارة فتنة أو صناعة مؤامرة هدامة في المجتمع اليهودي؟ وأرى أن الجواب يتركز في أن ثقافة سوء الظن ليست هي السائدة في ذلك المجتمع.
كيف؟ لا أروع الخطب ولا سحر الكلام والمقالات تغير في قناعات أفراد ذلك المجتمع أو تؤلبهم بدون إثباتات واضحة. وهناك مصادر مؤسسية يرجع إليها للحصول على الإثباتات. أما في مجتمعاتنا، فنعرف وقع لحن الكلام ومعسوله على الأفراد والمجتمع. نعرف وقع الخطب الحماسية، حتى لو كانت ضعيفة المحتوى من ناحية ثبوتية أو عقلية بصورة عامة. تتغلب العاطفة القائمة على سوء الظن، أكثر من تحكيم العقل. يوضح ذلك، ولو بصورة جزئية، تأثير الخطب البليغة أو الرنانة فينا. يوضح ذلك أيضا بصورة من الصور ما ينسب إلى الأحنف بن قيس، بأنه يغضب لغضبته 100 ألف، لا يسألونه فيما غضب، وكما لو أنه لا عقول لهم.
أكرر، التاريخ يعيد نفسه تكرارا ومرارا.
كم اتهمنا أناسا دون أن نتيقن ونتأكَد من ذلك، كم اغتبنا وحكمنا على نوايا آخرين، بسبب موقف أو كلام يحتمل أوجها كثيرة، ولكننا لا نأخذ إلا بأسوأ الأوجه والاحتمالات.
يروى عن حكماء قولهم "إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه، فالتمس له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرا لا أعلمه". لو طبق هذا الكلام، لزال كثير من مشاكلنا وخلافاتنا. لا تكون عداوة ولا قطيعة إلا بسبب سوء الظن غالبا. ولا تكون قطيعة بين أحد بسبب مال وتجارة، إلا لظن أحدهما أن الآخر وفي الغالب يستأثر ويستولي عليه.
طبعا المقصود بالظن المنهي عنه: أن يتهم أحدا بلا بينة أو قرينة مؤكدة.
من المهم جدا التنبيه على أن النهي عن سوء الظن لا يعني أن يعيش الإنسان ساذجا، لا يعني أن مجتمعات أخرى، لا ينتشر فيها هذا البلاء، تعيش على سذاجة. على الإنسان أن يحتاط لنفسه، لكنه احتياط لا يحمله على اتهام الآخرين دون إثبات.
البلاء عام، فما السبيل إلى علاجه أو تخفيفه في المجتمع تخفيفا بينا؟ تحد أمام عقلاء المجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي