الإشكالية في خريجي التعليم العالي

الموارد البشرية جوهر التنمية الاقتصادية والعنصر الأهم في إيجاد القدرة التنافسية وسبب تقدم الأمم ورقيها. فالتنمية تبدأ بالإنسان وتتحقق من خلاله وبه وتنتهي إليه. وتجارب الدول المتقدمة والنامية - على حد سواء - تدل على ذلك. فكيفما يكون الناس تكن التنمية. فالثقافة المجتمعية والنظام الاقتصادي وأسلوب صناعة القرارات وصياغة السياسات والخطط العامة وسلوكيات المستهلكين وتوجهات الاستثمارات الخاصة جميعها محددات لمستوى التنمية ومعدل تطورها. فالموارد البشرية بمفهومها العام لا تعني العمالة المدربة وحسب، وإنما ثقافة المجتمع تجاه الإنتاجية واحترام الوقت والالتزام بالنظام والدافعية نحو البحث عن الأفضل والاجتهاد لتحقيق التميز. إنه النظام الاجتماعي الذي يحدد التفاعل بين جميع مكوناته ويوجد المعرفة التراكمية المجتمعية في عمل الأشياء وبناء ثقافة إنتاجية متميزة تمنحه الأفضلية في إنتاج سلع وخدمات بعينها بجودة وتكلفة ونوعية لا يستطيع الآخرون مجاراتها. لذا يمثل المورد البشري عصب العملية الإنتاجية وسر التميز في أي اقتصاد، فلا إنتاج دون إبداع فكري، وجهد عضلي، وقدرات إدارية، ومهارات فنية، وثقافة تنظيمية مبنية على التعلم والانفتاح والشفافية.
لكن تتفاوت المجتمعات في كفاءة توظيف الموارد البشرية اعتمادا على مدى تحقيق معيار الجدارة بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وهذا يعني أن كفاءة التوظيف لا تعتمد فقط على تأهيل الأفراد، وإنما - وهو الأهم - توفير الوظائف المناسبة التي تتيح لأصحاب الكفاءات تسخير قدراتهم المهارية والمعرفية في عملية إنتاج متطورة ومنظومة عمل متقدمة تقنيا ليكونوا أكثر قدرة على الإنتاج والإبداع والابتكار. تطبيق مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب" هو الجانب المغيب في نقاشات إدارة الموارد البشرية الوطنية حتى أصبح الهم الأول لدى المسؤولين "التوظيف من أجل التوظيف" بهدف التقليل من معدل البطالة فقط وليس بقصد رفع مستوى إنتاجية الاقتصاد الوطني وقدراته التنافسية. هكذا يتم حشر معظم خريجي التعليم العالي في وظائف لا تمت بصلة لتخصصاتهم ولا مستوى تأهيلهم وبالتالي لا يتمكنون من تطبيق ما تعلموه في مكان العمل ويتولد لديهم شعور بالإحباط وقلة الأهمية واللامبالاة.
لذا يقتضي التوظيف الكفء للموارد البشرية وجود هيكل صناعي متطور يرتكز على الصناعات التحويلية والأبحاث التطويرية ويوفر وظائف ذات تقنية عالية تضيف قيمة للاقتصاد الوطني وشبكة مترابطة من الصناعات التي تغذي بعضها البعض لترتقي بقطاع الصناعة وتزيد من القدرة على التصدير والمنافسة، وصناعة البتروكيماويات المتمثلة بشركات "سابك" مثال حي على ذلك. الحديث هنا ليس عن توفير الوظائف كردة فعل لمواجهة مشكلة البطالة ووضع حلول وقتية ومسكنات لا تلبث أن تستعيد المشكلة قوتها وتظهر بأسوأ عما كانت عليه وتتفاقم وتتحول إلى معضلة، بقدر النظر للموارد البشرية كعنصر إيجابي يسهم في تحسين العملية الإنتاجية وتطوير الاقتصاد الوطني وقدراته التنافسية. إن عدم التفريق بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الإنتاجي أدى إلى تركيز الاستثمارات الخاصة في صناعات متناثرة استهلاكية تجميعية ضعيفة، دافعها جني أرباح سريعة اعتمادا على العمالة الأجنبية الرخيصة بغض النظر عن تأثيراتها السلبية على المصالح العليا للوطن.
ما يجب فهمه أن النظم الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية هي ما يشكل واقع المجتمعات إنتاجا وإبداعا وقوة. هذه النظرة الشمولية هي ما نحتاجه في فهم وتحليل واقعنا للانتقال إلى مستوى أعلى من التحضر الإنساني والتقدم الصناعي. لم يعد ممكنا الاستمرار على ذات النهج في التركيز على العمل الفردي وتقييم الأداء المؤسسي بعيدا عن مدى إسهامه في تحقيق المصالح الوطنية العليا. إن النظرة الانفرادية أدت إلى التخلي عن المسؤولية لتتقاذفها القطاعات المختلفة فيما بينها. ولذا لم يكن مستغربا أن ينادي بعض رجال الأعمال على سبيل المثال بموائمة مخرجات التعليم لسوق العمل، وهم بذات الوقت يستثمرون بمصانع استهلاكية تعتمد على العمالة الرخيصة غير الماهرة، وكأنما أنشأوا تلك المصانع لمعالجة مشكلة البطالة في الدول الآسيوية والإفريقية!
الآن وقد تخرج أعداد كبيرة من المبتعثين في تخصصات نوعية من جامعات عالمية ماذا عساهم أن يقولوا؟! يجب الاعتراف أن الهيكل الاقتصادي والصناعي ضعيف، وسبب ضعفه أنه لا يعتمد على صناعات تحويلية أصيلة تستخدم أساليب تقنية متقدمة ترفع من الإنتاجية؛ وبالتالي توفر وظائف ذات دخول عالية تتناسب مع مؤهلات خريجي التعليم العالي. إن تنامي أعداد الخريجين خاصة من المبتعثين مقابل ضعف البنية الاقتصادية سوف يؤدي إلى أزمة جد خطيرة لها إفرازات سلبية تهدد استقرار وأمن البلاد وتفوت الفرصة في الاستفادة من الكفاءات الوطنية المؤهلة التي كلفت الدولة الكثير. فسقف التوقعات لدى هؤلاء الخريجين سيكون عالياً، ومستوى وعيهم وإدراكهم أمر يجب أخذه في الحسبان، ليس باستيعابهم كحالات فردية، وإنما لابد من تمكينهم من المساهمة في تحقيق أهداف التنمية بتوظيف معارفهم ومهاراتهم وأفكارهم. وهذا يتطلب صياغة خطة استراتيجية وطنية للثلاثين عاما القادمة تحدد ماذا نريد أن نكون صناعيا، ومن ثم وضع نظم فعالة لتطبيقها. هذه النظم يجب أن تتصف بالرشدانية والموضوعية والحيادية والعدالة والكفاءة في القرارات الاقتصادية خاصة فيما يتعلق باستخدام الموارد البشرية والطبيعية والتقنية. هؤلاء الخريجون من جامعات عالمية سيعودون إلينا ليسوا كما ذهبوا، ولكن محملين بتجارب وخبرات تمنحهم القدرة على المقارنة وقدرة على التحليل والتعبير بمفاهيم ومصطلحات تعكس ثقافة جديدة وأفكار مختلفة. ومن المهم إدراك أمر مهم وهو أنه لم يعد من الممكن اختزال نظرتهم للواقع في تحقيق مصالحهم الآنية الخاصة الضيقة، ولكن لديهم رؤية عميقة للمجتمع ونظرة نقدية لما ينبغي عمله وكيفية عمله. هم أصحاب مشروع تنموي برؤية جديدة وشاملة لا تقتصر على معرفة ماذا يحدث؟ ولكن لماذا؟ وكيف سيكون المستقبل؟ وللإجابة على هذه التساؤلات.. لابد من وضع استراتيجية وطنية ومنظومة صناعية مترابطة ومتكاملة. وهذا يتطلب إعادة هيكلة الاقتصاد والتحول نحو الصناعات التحويلية الكبيرة على غرار صناعة البتروكيماويات ليكون بمقدورنا ليس فقط مواجهة تسونامي الخريجين القادمين من الغرب والشرق ولكن توظيفهم بكفاءة ليكونوا نعمة لا نقمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي