جامعاتنا.. واستثمار امتيازات مناطقها
مع نهاية الأسبوع الماضي صدر أمر خادم الحرمين الشريفين بإنشاء ثلاث جامعات جديدة في كل من حفر الباطن، وبيشة، وجدة. وذلك من خلال تحويل فروع الجامعات في تلك المدن إلى جامعات مستقلة وهذا رفع عدد الجامعات الحكومية إلى 28 جامعة، وهو في نظري رقم كبير. بالتأكيد فإن الوصول إلى هذا الرقم يحمل دلالات عديدة لعل أهمها هو أن الطلب على التعليم العالي في المملكة وصل مرحلة غير مسبوقة، فالشعب السعودي حقق قفزات كبيرة في الطلب على التعليم العالي لم تكن موجودة قبل 25 سنة من اليوم، ولهذا لم يكن هناك بد من فتح جامعات في جميع مناطق المملكة لتلبية الطب المتزايد وتخفيف الضغط الهائل الذي نشأ على الجامعات السبع الأساسية "إذا صح التعبير" والمدن الكبار التي نشأت فيها هذه الجامعات، والدلالة الثانية أن هذا التطور الكبير في عدد الجامعات سيخلق تحديا كبيرا لكل جامعة في استنباط ميزة تنافسية لطلابها، والاستجابة بكفاءة لمتطلبات التنمية في المنطقة التي أنشئت فيها الجامعة، وهذا يلزم بناء رؤية ورسالة واضحة لكل جامعة تعكس هذا الأمر بوضوح، ولعلي هنا أشير إلى جامعة القصيم وهي الجامعة الوحيدة "على حد علمي" التي عكست مبدأ تنمية المنطقة كجزء رئيس من رسالتها، فالجامعات لم تنشأ في هذه المناطق والمدن إلا من أجل تنمية مستدامة ومتوازنة لكل منطقة، حيث ترتكز الجامعة في أعمالها وتخصصاتها وخدماتها على ما تتمتع به المنطقة من مزايا اقتصادية وجغرافية وأن تلبي احتياجاتها من الكوادر البشرية المؤهلة، هذا بشكل أساسي. الدلالة الثالثة هي أن الجامعات الحكومية مؤسسات خدمة بطبيعتها، ولذلك ترتكز في تقديم خدماتها على ما تمنحه الدولة من دعم في ميزانية كل عام، فالوصول إلى رقم 28 جامعة يوجد تحديا كبيرا في توفير إيرادات كافية لتلبية احتياجات هذه الجامعات. وهكذا وبعد الوصول إلى رقم 28 جامعة إضافة إلى الجامعات والكليات الأهلية، فهناك أمران يجب النظر فيهما: التخصصات التي تقدمها كل جامعة ومدى مناسبتها للمنطقة، وطريقة تمويل الجامعات الحكومية.
في نظري الأمر يحتاج إلى استراتيجية جديدة للتعليم العالي، يجب على كل جامعة أن تقدم برامج تتناسب مع كل منطقة تعمل فيها الجامعة، وهذا يحتاج إلى دراسة عميقة لكل مجتمع، وأن يتم تفهم احتياجات هذا المجتمع وأن تسهم الجامعة في إيجاد مجتمع تنموي قادر على الاستفادة بشكل كامل من المزايا التنافسية التي تقدمها المنطقة، وهذا يقودني إلى مناقشة أكثر عمقا، وهي أسباب الطلب على التعليم العالي في المملكة، فنحن نسعى إلى مجتمع رأسمالي بتوجهات إسلامية، فالدولة لن تتحمل وحدها كل مشاكل التنمية، ولذلك بدأت منذ وقت مبكر في خطة لإشراك القطاع الخاص، وهذا يحتاج إلى كوادر مؤهلة ومتشبعة بهذا الفكر "الرأسمالي ذي التوجهات الإسلامية"، لكن الجامعات السعودية حتى الآن "تفشل في نظري" في إنتاج هذه النوعية من الكوادر القادرة على الدخول إلى العالم الرأسمالي وتفهمه بل هي تخلق كوادر تنتظر دورها في التوظيف الحكومي، ولذلك نجد الجامعات تعكس في تخصصاتها ما يتطلبه سوق العمل الحكومي، بغض النظر عن مناسبة هذه التخصصات للمنطقة التي تعمل فيها الجامعة. فلقد تحولت الجامعات وللأسف من محرك ومؤثر في المجتمع إلى مجرد نسخ كربونية بعضها من بعض، كليات للتربية، كليات إدارة أعمال، كليات طبية، كليات أدب وإنسانيات، كليات للعلوم. نسخ كربونية، حيث يخرج الطالب لا يجد فرصة عمل في منطقته ولا يجد أن تخصصه يساعده على الحصول على تمويل من أجل بناء مؤسسته الخاصة في منطقته، لذلك ما إن يتخرج حتى يحمل حقائبه للسفر إلى منطقة يوجد فيها طلب على تخصصه وهي دائما المدن الكبرى، فما هربنا منه عندما كانت الجامعات سبعا عدنا إليه والجامعات 28.
يجب على الجامعة أن تسهم في إيجاد ثقافة اقتصادية رأسمالية في منطقتها، ويجب أن يتخرج الطالب في تخصص يتناسب مع الموارد والصناعات التي في منطقته أو على الأقل أن تتناغم خطة التنمية في المنطقة مع خطة التخصصات في الجامعات، ومن ثم تقوم الدولة بدعم المشاريع التي يعمل فيها الخريج في منطقته وتسهيل وصول منتجاته إلى الأسواق. إنه طريق التنمية الذي يجب أن تسهم فيه الجامعة ليقوم أبناء المناطق الجنوبية بشراء منتجات المناطق الشمالية والعكس، ثم تتحول الجامعات تدريجيا من مجرد إنتاج كوادر مؤهلة إلى مراكز للبحث والتطوير وابتكار المنتجات المتخصصة التي تقدمها المنطقة، هذا ما أفهمه عندما تصل جامعاتنا إلى 28 جامعة، يجب أن ترسم الجامعات طريقا واضحا لتنمية المنطقة زراعيا وصناعيا وأخلاقيا وطبيا واجتماعيا.
إننا جميعا نعلم أن اقتصاد المملكة يرتكز على مورد رئيس وهو النفط، ويوما ما سنواجه مشكلة مع هذه المنتج الذي يقل المكتشف منه عاما بعد، والعالم يبحث عن مصادر بديلة للطاقة، ومع 28 جامعة لابد أن نفكر ونبدع حلولا للتمويل الذاتي لهذه الجامعات، وهذا لن يفلح طالما أن الجامعات تعمل وتختار تخصصاتها بالطريقة الكربونية الحالية. يجب أن تنصهر الجامعات في مناطقها لا أن تنعزل عنها في غاباتها الأسمنتية.