غابات الموت الفاسد
حين غضب الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ على بني إسرائيل كانت فيهم كلمته "اقتلوا أنفسكم"! ومذ تلك اللحظة الغائرة في القدم كانت علامة غضب الله الظاهرة على أمة أن ـــ تقتل نفسها بنفسها ـــ باتت من تلك اللحظة البعيدة في بني إسرائيل. التي سنكرر سيئاتها ونرتكب خطاياها جميعا. كانت القاعدة الوجودية الظاهرة أن الأمة التي يقتل رجالُها رجالَها بأيديهم وأموالهم وأسلحتهم، هذه أمة غضب الله عليها، وتناءت عنها رحمته ورأفته.
كما في بني إسرائيل وقوم موسى.. إن كلمة الله عليهم بالقتل كانت، أن رفع من قلوبهم خصائص الإيمان الصادق وصفاته، ورفع آثاره في تآلفهم وتراحمهم وإيثارهم على أنفسهم، ولو كان بكل نفس خصاصة من عظيم البذل وجميل تقديم الآخر على الذات.
كما استبدلوا نعمة الله كفرا بها لا شكرا لها، ولا سعيا في حفظها ورعايتها حق رعايتها. وكما استبدلوا بالبصل والفوم المن والسلوى، كذلك كانت الكراهية بديلا عن طهر قلب بالإيمان بالله، وشهوة القتل، بديلا عن حب الخير لكل من خلق الله حتى يباس الأرض، والطير العابر والكلاب الضالة في "كل كبد حراء أجر حتى في الكلب العقور".
حينئذ يمكن فهم كل هذا القتل الرخيص الذي يجري في مدننا العربية في شوارعها، وبالقرب من مآذنها، وذاك التدمير لكل بنيانها، وحواضرها، وتسميم منابع عيونها، وسد مجاري سواقيها، وكل هذا بفتنة تدوم دون أن تقدم سببا واحدا عاقلا ورشيدا لدوران رحاها الثقيلة على البلاد وأرواح العباد.. تدردر الموت، وتبعثر عظام ضحاياه بما لا يواريها قبر، ولا يحضر جنائزهم صلاة، ولا دعاء برحمة فلا يعين ميت ميتا، ولا يجير ميت ميتا إلى جواره.
العراق لا يغلق قبرا حتى ينفتح بجواره قبر جديد، وسورية تتسع دائرة المقابر أوسع من حطام مدنها، وليبيا توقف فيها الانفعال والفعل الإيجابي، وفي هذا كله.. يقاوم الناس في عجز، ووجع قتل الذات العبثي المجنون هذا دون إدراك سبيل الخلاص منه. ولكن كيف نفسر هذه الجنائز.. بالعقوبة؟! وكيف نعتبر هذا قدرا من مقادير السنن الكونية التي كانت في أمم سبق منها ذات الفعل وكانت من سنن الله عليهم هذه العقوبة قتل الذات الجمعية بأشنع صور القتل.. وأشنع الوسائل والتفاخر بنحر الرقاب، ومضغ الأكباد الحارة من الموتى؟!
ربما يتضح هذا حين نبصر ـــ الضغائن ـــ وقد بات لها لسان عربي يقرأ القرآن على منابر الجمعة، وبكتاب الله يغري بالذبح ويحض عليه، ويفرح بالدم المسفوح! فرح من طمس الشيطان فطرته وضوء روحه.
فحين تجد المربي والمعلم لأصول الشريعة في الجامعات.. هو الذي يتراقص فرحا لنحر أطفال تسعة.. وتعليق رؤوسهم البريئة على باب من بيوت الله! ومن حولهم أشباه رجال.. قد طمس الله قلوبهم وختم على عقولهم يذكرون الله لهذا الذبح تكبيرا وفرحا وسرورا!
حين تجد هذا كله والفتوى تفصل الحدث السياسي بمقاس الرغبة للسياسيين، حين تجد هذا مع تعمد تحريف الكلم عن مواضعه، وجعل العامة يمور بعضهم في بعض.. طائفية ومذهبية وتحريرا غموصا.. وبهذا يتبارك الدم السياسي الحرام.. ببركة المعبد والمسجد والكاهن والمفتي والإمام.
حينئذ نعلم أن هذا العبث والجهل والدم كله ما هو إلا غضب من الله قد آن أوان نزوله على هذا الزمان وأهله. ولن يعرف هذا العمى إلا من خرج منه.. وجعل الله له قبسا من نور بصيرته وروحه وقلبه.