شبابنا واضطراب الهوية

كلما اتصل عليه أحد أبنائه أو بناته طالبا السماح له بالذهاب لمكان ما أو شراء بضاعة ما وجدته يقول وبسرعة ودون عميق تفكير "توكل أو توكلي على الله" وانتبه أو انتبهي لنفسك وبالتوفيق - إن شاء الله، وإذا اتصلوا لأخذ رأيه في العمل بوظيفة معينة أو الانتقال لفرصة وظيفية أخرى أو معالجة مشكلة معينة أجده يطرح أسئلة في محاور معينة ويأخذ الإجابات ثم يقول لابنه أو ابنته وأنت ما قرارك ثم يدعو له بالتوفيق ولا يضع قراراً أو رأياً حاسماً.
سألته ما الذي يدفعك لذلك، لماذا لا تكون صلبا وحاسما في ظل المشاكل المتزايدة، خصوصاً أنك رجل متعلم ومثقف وتملك من الخبرات والتجارب الكثير؟ أجابني بكل هدوء أنا لا أريد أن أسحق شخصياتهم وأريد أن أنميها ولست في مرحلة تربية فقد تجاوزوها كما أني لست الرقيب القائم عليهم 24 ساعة لأرى تصرفاتهم وأقيمها وأقومها هذا من ناحية، وأما من الناحية الأخرى فإن منظومتي الفكرية والمعرفية تختلف تماماً عن منظومتهم ومنظومة جيلهم لذلك ستكون قراراتي وتوصياتي المباشر لهم خاطئة لأنها نابعة من منظومتي الفكرية والمعرفية وتناسب جيلي وبكل تأكيد لا تناسب جيلهم الذي كوّن منظومته من أكثر من مصدر لم يكن متاحا لنا.
يضيف هذا الرجل بكل تأكيد نحن نحافظ على الثوابت من القيم، لكن بكل تأكيد مفاهيمها تتغير، ففي زماننا لا نتقاسم مبلغا ما نأكل في مطعم، بل نتدافع لدفع المبلغ، ومن يدفع يكون قد فاز بإكرام أصدقائه، واليوم أبناؤنا يتقاسمون تكلفة الطعام دون مشاكل ومزايدات، وبالتالي فإن قيمة الكرم ثابتة، لكن مفهومها تغير وكل جيل يقبل مفاهيمه ولا يمكن لي أن أقول إننا صح وهم خطأ ولا العكس وهكذا بالنسبة لمفاهيم الكثير من القيم وغيرها والنظرة للعادات والتقاليد.
يقول أيضاً في السابق كنا نأتي للمريض بالشاي والقهوة والعصائر والطعام ثم تحول الأمر للحلويات والعصائر ثم تحول اليوم لباقات الورد، ومن وجهة نظري لا تثريب على أي جيل ولا فضل لمفهوم على آخر، فالمهم عيادة المريض قائمة وما يسعد المريض يتغير من جيل إلى آخر، ولو أن أحد أبنائي أراد أن يذهب لمريض بباقة ورد بقيمة 300 ريال لقلت اذهب له بحلويات وعصائر يستفيد منها وأسرته، ولكن بكل تأكيد استشارتي تناسب جيلي ومفاهيمه ولا تناسب جيل ابني وأصدقائه ومفاهيمهم.
أحد الأصدقاء ممن يشاركنا الحديث قال إنه يعتقد أن مثل هذه الأفكار وهذا التراخي يؤدي إلى فقدان الهوية أو اضطرابها لدى أبنائنا وعلينا أن نكون صارمين ولا نتساهل معهم بتغيير المفاهيم والعادات والتقاليد كيفما يشاءون، خصوصاً أن مصدر العولمة وبلاءها الدول الغربية غير المسلمة، وكان ردي أن عصر العولمة الذي نعيشه الذي يتسم بالتقدّم التكنولوجي والانفجار المعرفي والانفتاح الثقافي والمتغيرات السريعة في العديد من المجالات المادية والتقنية والاقتصادية والثقافية لا يمكن التعامل معه ببعض المحاولات الدفاعية باعتبار العولمة مصدر شرور وتهديد للهوية الوطنية أو الإسلامية، وعلينا أن نبحث عن استراتيجيات أخرى ذكية تحقق لنا الاستفادة من معطياتها وتجنب مخاطرها قدر الإمكان مع مراعاة أن العولمة، شئنا أم أبينا، ستفرض واقعاً جديداً في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وعلينا التعامل معه لا إنكاره وإلا فإن الفشل حليفنا الأكيد.
حقيقة الأمر أنا وغيري من الآباء في حيرة من أمرنا من مستقبل هويتنا الثقافية في ظل العولمة التي جعلت كل شيء على مستوى عالمي، خصوصاً في ظل غياب مراكز أبحاث وطنية قادرة على متابعة التطورات ودراسة أثرها في السلوك والقيم والمنظومة المعرفية والثقافية في هذا العصر الذي يعتمد على المعرفة والصناعة الفكرية ويتّسم بالتزايد الهائل في كم المعلومات والمعارف وتعدّد مصادر التعلم المختلفة وانفتاح الثقافات وانتقالها من دولة إلى أخرى، أقول ذلك رغم أن كثيرا من الدراسات التي تخرج من مراكز البحث الدولية تثبت أن للعولمة فوائد جمة على ثقافات الشعوب كافة وأن العولمة رفعت من معايير شعوب الدول المتخلفة لمستوى معايير الدولة المتقدمة في المجالات كافة، وهذا يجعلها تشعر بالفجوة، وبالتالي تنطلق في معالجتها، وهذا في حد ذاته شيء أكثر من إيجابي ونافع.
وفي ظل غياب مراكز الأبحاث التي تدرس وتحلل وتشخص وتستنتج وتوصي انقسمنا إلى ثلاث فئات متصارعة دون مرجعية معلوماتية، الأولى ترى أن العولمة كلها خير وأن من يقاومها أو يحد منها يدعو للرجعية والتخلف، لذلك فهي تغالي تبنيها للعولمة دون أن تقيم اعتبارا للهوية الوطنية، والثانية ترى العولمة كتلة من الشرور يجب مقاومتها والتحجر حيالها، والثالثة ترى أنه لا تناقض بين العولمة والهوية الوطنية وعلينا ضرورة استيعاب التغيرات الحاصلة في العالم المتحضر والاستفادة منها بالشكل الصحيح. أعتقد أن الشباب، وهم الكتلة الكبرى في مجتمعنا، يعيشون حالة من الصراع أكثر منا نحن الذين تجاوزنا العقدين الثالث والرابع من العمر، وأعتقد أنه ما لم نوفر لهم مرجعيات علمية قائمة على دراسات وبحوث حديثة ودقيقة وشاملة وفق منهجيات علمية محترمة سيكون الصراع الفكري بينهم على درجة كبيرة بشكل لا تحمد عقباه، وأظن أن بوادر هذا الصراع الفكري، الذي نراه مادياً في بعض الأحيان كما هو في صور بعض الحركات الجهادية لا يمكن إنكارها والمراهنة على الزمن وتحركات الدول الكبرى لمعالجتها.
أتطلع إلى أن تلعب مراكز الأبحاث في جامعتنا القديمة والناشئة، التي تسعى إلى تكون كيانات حية نشطة وفاعلة في مجتمعاتها دوراً كبيراً في رصد مظاهر العولمة وأدواتها وفرصها ومخاطرها وآثارها لتوفير مرجعية معلوماتية علمية ودقيقة ومتجردة دون عواطف لكل الشباب ليبنوا مواقف إيجابية فاعلة تجاه العولمة وأدواتها وآثارها بعيداً عن الآراء والانطباعات والعواطف الشخصية لنغنم فوائدها ونتجنب مخاطرها ونخفف من الشعور باضطراب الهوية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي