سياسة الأفعال وردود الأفعال
المتأمل في سلوك الناس والمنظمات والدول يجد البعض أن سلوكه لا يقوم على رؤية واضحة ومحددة مسبقا، أو وفق حاجة يشعر بها ويرغب إشباعها، أو مصلحة يخشى عليها ولذا يتصرف دفاعاً عنها، إنما أفعالهم تأتي على هيئة ردود أفعال لأفعال الآخرين مجرد تقليد ومجاراة لا أكثر ولا أقل، وهم في هذا السلوك مثل الطفل الذي يرى الآخرين يأكلون فيأكل مثلهم وليس في حاجة أو شعور بالجوع.
الإنسان بغرائزه، واحتياجاته الفطرية، وعقله، وثقافته الإنسانية العامة، أو بثقافته الخاصة يفترض أن تكون تصرفاته محكومة بهذه الأشياء، وبشكل متوازن فلا تطغى الغرائز وتتجاوز ثقافة المجتمع وقيمه، ولا يحلق العقل ويغفل الاحتياجات، ويتجاهل الواقع الذي يوجد فيه الفرد، أو يستهين في الواقع وما قد يترتب عليه من آثار. الأمر يستوجب الحضور ومعايشة الواقع والتفاعل معه بما يحفظ الحقوق، لكن المشاهد على البعض أفراداً ودولاً، ومنظمات أن سلوكها أفعال ليست استباقية، وإنما ردود أفعال لما فعله أو يفعله الآخرون.
في الحقل التربوي وجدت هذه الظاهرة السلوكية في الجامعات فما أن تقدم جامعة على افتتاح قسم أو كلية حتى تقدم جامعة أخرى على فعل الشيء ذاته وبغض النظر عن وجود حاجة لهذا التخصص أو لا ودونما إجراء دراسة ميدانية لسوق العمل، ولعل ظاهرة الجودة والاعتماد الأكاديمي كانت أحد الشواهد على سلوك التقليد حتى في المؤسسات التربوية والتعليمية، مع أن الاهتمام بالجودة والاعتماد سلوك حميد حتى وإن تم على صورة تقليد ومنافسة تفتقد الأسس العلمية والموضوعية في نشأتها عند الطرف المقلد. في ميدان الاستثمار نلاحظ الأمر جلياً في مدننا وشوارعنا إذ ما يفتتح فرد بقالة أو مطعماً حتى يسارع الآخرون لفعل الشيء ذاته، دونما تفكير إن كان هناك حاجة لهذه الخدمة في المكان أم لا، وقد تكون هذه الخدمة مطلوبة في مكان آخر، وتنجح، وهذا يؤكد أن دراسة الجدوى لا وجود لها عند البعض، بل يتركون الأمور تسير وفق مبدأ المصادفة ولا غير ذلك.
الأفراد قد يعذرون رغم أن نتائج هذه التصرفات قد تكون كارثية بالنسبة لهم، إلا أن الجهل في التخطيط وإنشاء الأعمال قد يكون عذراً لهم في مثل هذه التصرفات. أما المنظمات والدول التي لديها من الإمكانات المادية والبشرية، ولديها خطط وتعلن عن برامج عمل، ولديها من الخبراء، والمستشارين فهي غير معذورة في أن تكون أعمالها مبنية على ردود الأفعال.
تأملت في الدول، والعلاقات فيما بينها فألفيت صنفين من الدول، الصنف الأول يعمل وفق استراتيجية واضحة المعالم، ومحددة المراحل، والاحتياجات، وقد يطرأ شيء من التعديل، والتغيير، والتقديم، والتأخير حسب الظروف والمستجدات التي تستوجب مثل هذا التغيير، وغالباً تكون هذه الدول عقدية، تجعل من العقيدة التي تتبناها أساسا لخططها، وأعمالها. إيران تمثل نموذجاً لهذه الدول، إذ منذ ثورتها وهي تعمل على بناء ذاتها اقتصادياً، وثقافياً، وعسكرياً، كما أنها تنتشر في العالم، وتضع لها قواعد وجود في ما تعتقد أنه يخدم مصالحها، ويحقق أهدافها، ولذا عملت على برنامجها النووي، وصناعاتها العسكرية من طائرات، وصواريخ، كما امتدت أنشطتها إلى إفريقيا، وآسيا، وأمريكا الجنوبية في حين أن دول الجوار تعمل وفق سياسة ردود الأفعال، وليس إنشاء الفعل ابتداء.
العاملون وفق خطط مسبقة مبنية على فلسفة واضحة ومحددة، وتعتمد على منطلق عقدي واضح، وتسعى لتحقيق أهداف محددة سلفا دائماً يكونون في المقدمة، والآخرون يركضون، ويلهثون وراءهم لأنهم يصنعون الحدث، أما غيرهم فيتكلف صناعة رد فعل للحدث.