فاقد الشيء «يعطيه»!
البعض يعتقد ــ وأنا منهم ــ أن الذي يكثر الحديث عن شيء معين، لديه عقدة أو ردة فعل تجاهه، وقد اختزلوها حين قالوا: "باب النجار مخلع". مثلا من يتحدث كثيرا عن الطمأنينة وضرورتها، فهو غالبا يكون فاقدا لها، وفي قلق مستمر، فيظل يبحث عنها ويتحدث وتكون شغله الشاغل، وبقدر ما أكثر فيها كان ذلك دلالة على قلقه أكثر، وأصحاب دورات تطوير الذات هم المثال الحاضر دوما، خصوصا أفكارهم حول مزاعمهم للنجاح المالي، فهم يقيمون هذه الدورات الكثيرة لمجرد التربح المادي من الناس، رغم أنهم أنفسهم عاجزون عن تحقيق أي نجاح يذكر.
وتتكرر الأمثلة لتعطينا في الحياة المزيد من الدروس، وأعلى تجلياتها يكون في حال بعض الجمعيات التي يكون أصحابها يفعلون الشيء نفسه، أو ربما يعانون الشيء نفسه الذي يحذرون منه، وعوا ذلك أم لم يعوا. فلا بأس أن تخرب إحداهن بيتا لأنها تهمس لرجل أن يتبرع لجمعية المطلقات! ولا بأس أن نسيء للبيئة في أثناء اجتماع نقيمه لمناقشة حملة حول حماية البيئة.
ولا ضير إن كتب أحدهم تعريفا عن نفسه بأنه يقدِّر حرية الآخرين، في الوقت الذي يكون فيه متسلطا عليهم ما استطاع لذلك سبيلا. كنت في المطار ذات يوم فشاهدت شخصا معروفا تصرف تصرفا لم يعجبني، فبحثت وقرأت عنه في الإنترنت وصدمت بالفعل من التصرف الذي قام به فاستغربته، ووجدت أن هذا الشخص متخصص في التربية والتوعية عنه.. كيف يمكن أن يتناقض الإنسان للدرجة التي ينسى فيها نفسه؟
أنجح مثال نموذجي ساخر لهذا الحال هو حساب "امظلوم" في تويتر، الذي يمثل في كل كلمة نموذجا للإنسان الذي لديه مشكلة حقيقية في حياته وهي الإملاء الضعيف جدا لكنه (لا يعترف بمشكلته) ولا يراها رغم وضوحها حتى لو أجمع عليها كل من حوله. سجل هذا الحساب الساخر عدد متابعين ضخما خلال فترة وجيزة من إنشائه، فهل ذكّر هذا الحساب الناس بأنفسهم في حالات معينة تناقضوا فيها؟
وعلى الرغم من كل هذا حين يحصل التناقض من الإنسان بمفرده فقد يكون معذورا فيه، لأنه وحده يفكر ويعمل ويتصرف ويقيّم، لا يوجد رأي آخر شاركه ذلك التناقض، فوقعت مسؤولية التناقض على شخصين بدل الواحد، لذلك يبدو من الغريب جدا أن تتصرف جهات رسمية وأجهزة مكونة من أفراد بتصرف يتناقض مع مبادئها وأفكارها لأن المسألة هنا لا تتعلق بشخص واحد فقط، بل بمجموعات منها من يفكر ومنها من يراجع ويقيم وآخر ينفذ. فما فائدة هذا التعدد في الجهة والجهاز من الأفراد إن كانت قد تحمل سمات الفرد أيضا؟
هل هي مشكلة نفسية في تماهي الأفراد لرئيسهم لمجرد أنه رئيسهم فيمنع ذلك منهم نفسيا أن يقيّموا ويراجعوا ويعيدوا التفكير في القرار والتصرف؟
وقف بائع الخضار يبيع ما لديه من خضار في سيارته على شارع من شوارع المدينة، فجاءه رجل من الجهات المختصة بدلا من أن يخبره عن الطريقة النظامية التي يعرض بها خضاره للبيع، أخذ البضاعة ونثرها على الأرض، ناهيا إياه عن البيع مرة أخرى في المكان نفسه، سأل البائع: ماذا جنيت؟ دلني على مكان نظامي أبيع فيه بضاعتي؟ لكن المسؤول لم يجب عن تلك التساؤلات، كل ما عمله أن كتب له مخالفة وأفسد بضاعته ومضى في طريقه، فكانت الجهة المختصة بتنظيم بيع الخضار هي ذاتها المختصة في فوضاه.