هناك جيل قادم يريد أن يعرف ما الذي يحدث بالضبط
تختلف وجهات النظر حول التنمية والنجاح والحياة بشكل عام في مجتمعنا. فهذا يرى الأمر في مبادئ وقيم الدين فقط ويرى ما سواها ضلالا وفجورا وبئس المصير. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يصور للناس أن الدين لا يعرفه إلا هو، والصراط المستقيم لا يراه سواه، والمبادئ التي ينادي بها يجب أن تحتذى بحذافيرها ومن جنح عنها فليس منه ولا هو منهم في شيء.
صنف آخر - أفرزه التناقض الذي نعيشه - يرى النجاح والتطور والتنمية في تقليد الناجحين ولو تخلى عن مبادئه وقيمه ودينه، فالغاية هنا تبرر الوسيلة. فلا يرى للدين وجودا في رقي الأمم وتطورها، ولا يعترف بالفضيلة منهاجا وطريقا، ويرى أن كل من ينادى بالمحافظة على الأخلاق والقيم والدين رجعي متخلف لا يعرف عواقب الأمور. يرى هذا الصنف أن الدين حيلة المساكين وحجة العاجزين لا يوجد إلا في الشعوب المغلوبة على أمرها، وما الدين في ذهنه إلا مخدر ابتكره الأقوياء ليعزوا به الضعفاء حتى يرضوا بواقعهم ويقبلوا بمصيرهم، ويستشهد بالحضارات الحاضرة والبائدة، كيف انطلقت بعد أن تخلت عن الدين الذي قيد حركتها فيقنع نفسه ويحاول أن يقنع من حوله بأن التطور والتنمية وقيادة الأمم لا يعوقها إلا التمسك بالدين بما يحويه من أخلاق وقيم وفضيلة.
ويظل هذان الفكران يتناحران أمامنا وبين أعيننا كل يقصي الآخر ويتهمه بما هو فيه وبما ليس فيه. فالصنف الأول يستغل منابر الجمعة لينال من غرمائه فيصفهم بالمهزومين تخلوا عن إرثهم النفيس وسفهوا دينهم العظيم ففقدوا هويتهم وأضاعوا تاريخهم. ويبالغ هؤلاء في الإقصاء حتى أنهم استغلوا الدين الذي هو لله من أجل كسب المعركة الفكرية، فوضعوا أنفسهم أنبياء ورسلا، بل وصل ببعضهم أنه تخطى حتى على قدرات الذات الإلهية ونسبها لنفسه من حيث يدري ولا يدري، فكفّروا جزءا وأخرجوا آخرين من ملة محمد، وشككوا في العقائد ودخلوا في الضمائر، وحكموا على الناس بجنة أو بنار قبل يوم الحساب.
أما الصنف الآخر فقد استغل وسائل الإعلام يدافع عن نفسه ويرى أنه يقرع الحجة بالحجة، فيرمون غيرهم بالتخلف والبعد عن الواقع ويمارسون شتى أنواع الأسلحة، فيرمون معارضيهم بالإرهاب تارة وبالسعي في تكوين منظمات جهادية تارة أخرى، ولا أدري ما علاقة الجهاد بالإرهاب. وأريد أن أتوقف هنا قليلا عند مصطلح "الجهاد" هذه الكلمة التي لن يستطيع أحد أن يلغيها من قاموسنا نحن المسلمين، فهي موثقة في كتاب الله وفي سنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم. فلولا الجهاد لما كان للعرب حضور بين الأمم ولما كونوا لهم دولة، بل لما كانت لهم حضارات متعاقبة بعد أن كانوا عبيدا ومتسولين ورعاعا وهمجيين. يجب أن ننزه هذه الكلمة من الدنس وألا نربطها بمصطلحات العصر وجرائمه كالإرهاب ونحوه، فالجهاد فريضة لا ينكرها إلا كافر. الذي ننكره استثمار الجهاد عن طريق إقناع الشبيبة والسذج والزج بهم في مواطن الفتن باسم الجهاد بدون مرجعية دينية حصيفة، وبدون هدف مقدس، وبدون أمة إسلامية ترعى الجهاد وتتبناه. فمثل هذه التصرفات لا تتعدى كونها تهورات صبيانية مهما كانت المبررات، خصوصا في عصرنا هذا الذي اختلطت فيه الأوراق، فلا تدري من هو العدو من الصديق ولا المسلم من الكافر ومن هو الشهيد ومن الذي مات ميتة جاهلية. كل يدعي الوسطية ويطلق على نفسه الفئة المنتصرة ويلقى عليها لقب الشهداء، وأعدائه بالمعتدين الضالين الفاسقين. ولا أريد أن أسهب في موضوع الجهاد فلعلنا نعود إليه في مناسبات قادمة ــ إن شاء الله.
نعود للموضوع فنقول إن تقسيم المجتمع والدولة والشعوب والأمم إلى صنفين لا ثالث لهما متحاربين متناحرين، أضاع علينا الكثير من الفرص وأصبح بعضنا يضرب أعناق بعض. فقد قسمنا هذا التصنيف إلى شيع ومذاهب يذيق بعضنا بأس بعض، ولو توقف الأمر عند هذا الحد لهان علينا إلا أن الأجيال المقبلة أصابها انفصام في الشخصية ولا تدري أين الحق من الباطل. أصبحت الأجيال الناشئة حيارى هل يتبعون سبيل الذين يرون أن الدين كله لهم، فيتكلمون باسم الله وكأنهم أولياؤه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وبيدهم مصير البشر من إسلام وكفر وجنة ونار، أم أن الحق مع الذين يرون أن الدين هو سبب تخلفنا ومصدر هزيمتنا وضلالة فكرنا؟ لقد أصبح الناشئة حيارى مذهولين فلا يوجد في الساحة فئة أخرى تقلب الأمور فتأخذ محاسن هذا ومحاسن ذاك، ولهذا لا يوجد أمامهم إلا أن يكونوا من أتباع من يستثمرون الدين أو من حزب أعداء الدين.
إنني أقول لكلتا الفئتين والذين نعرفهم بسيماهم ونعرفهم في لحن القول: ألا تفرقوا جمعنا وأن تبعدوا الفتية والأجيال المقبلة عن ساحات العراك، وأن تتفقوا على قواسم مشتركة بينكم، فأنا متأكد أن صلب أزمتكم وذروة مشكلاتكم أنكم تتناحرون على الاختلافات ولم تنظروا إلى نقاط الاتفاق ومواطن اللقاء. هناك قواسم مشتركة يمكن أن تتفقوا عليها فهذه ستقرب الرؤى وستعيد المحبة والوئام واللطف، وبعد أن تحدد نقاط الاتفاق سيرى كلا الفريقين أن نقاط الاختلاف لا تستحق الشقاق ولا النفاق ولا الدسائس والمؤامرات ولا التكفير ولا استثمار الدين ولا بغضه. هناك جيل قادم يريد أن يعرف بالضبط أين هو، ومن أين سينطلق؟ وطالما أنه في بيئة منقسمة على نفسها بفكرين متضادين متناحرين كل يريد أن يكسب المعركة ولو على حساب الدين والناس أجمعين، فيرى الاختلاف هو الأصل وما عليه سوى أن يحدد مع من يكون؟
رفقا بأبنائنا ولنكن أكثر حضارة ووعيا واستيعابا للآخر، وقبول الأطراف الأخرى، فيجب أن نقبل بعضنا باختلافاتنا ونضع للصلح مكانا قبل أن ننهزم من داخلنا.