جِدّة .. مدينة تاريخية على موعد مع اليونسكو
احتفلت جِدّة الوسيمة في الشهر الماضي بتاريخها المثير للاهتمام، وفتحت المدينة المغناطيسية صناديق الذكريات والأفراح، وقدمت لزوارها كل أضابير الماضي التليد، ومن سوء حظي أننى لم أحضر العرس من أوله، لأننى كنت في مدينة الضباب لندن أحضر مؤتمراً عن الطاقة الشمسية، ولكنى مع ذلك لم أترك الفرصة فحضرت في الأواخر، وكنت على تواصل دائم مع عمدة حارتنا الشيخ عبد الصمد بن محمد بن محمود عبد الصمد، وعشت مع العمدة في حميمية الحارة والحي نستظل بالحكاوي والذكريات الدافئة.
جدة الحالمة في يوم احتفالها تفرد أضلاعها وتقف ممشوقة القوام، وتضع في معصمها الأيسر ساعة جميلة هي ساعة الوقت الجميل لكل زائر يزورها، وتلبس في معصمها الأيمن أسورة كتب عليها كل تضاريسها وجبالها ومناخها.
الوقت الصباح الباكر حبات الندى تتساقط على وجه مدينة جدة وتبلل عينيها الناعستين وأنفها المدبب وشفتيها المرتعشتين التي تستعدان لتقبيل وجه الحياة، والغيوم تتسابق صوب البحر والقمر الممشوق يفرد عضلاته من خلف الكثمان.
جدة وهي تزف اليوم تغني للفرح وتتحدث بوجدانها قبل فلوسها، وبأحاسيسها قبل شوارعها، وبعواطفها قبل أموالها وأملاكها.
وفي الليل تتألق وتلبس شواطئها وشوارعها وقصورها ومتاحفها ومعارضها وأسواقها وحوانيتها فساتين الفرح والحياة.
وفي النهار تلملم جدة أطرافها، وتغطي ساقها، وتخفي كل معالم حيائها، وتخلع فساتين الليل، وتلبس قميص نومها، وتغفو إغفاءة للراحة، ثم تغطس في تعسيلة قصيرة وتستفيق على عجل وكأن الوقت قد أدركها ودهم حياتها المتألقة.
لقد ولدت جدة من رحم أمنا حواء التي ارتضت- طائعة مختارة ــــ أن تدفن في حضن جدة.
وأهل جدة كحضارة جدة، متحضرون يحبون الناس كل الناس ويعتبرونهم ضيوفاً في حضن جدة.
الناس في جدة كحبات المطر يقفزون هنا وهناك.. في المولات والمعارض وفي الاستراحات وبين ملاعب ومطاعم الكورنيش، وعلى أرصفة منطقة شاسعة تسميها جدة منطقة الحمراء ومنطقة الشرم.
وجدة وهي تبدو كعروس جميل تقف شامخة أمام البحر تتحدث عن نفسها بثرياتها واستراحاتها وشاطئها الجميل وأسواقها الثرية التي تمتلئ بكل شيء.
حتى نجمة الصبح في سماء جدة.. فهي جداوية لا تخفي ابتسامتها حتى تبلغ الفجر، وتحافظ على عفتها وعذريتها ولا تسلم نفسها للشمس الحارقة، بل تخبئ فستانها ثم تعود مع سقوط الشمس في غسق الغروب.
جدة تطوي بدنها بمنديل الغسق الشفاف وتختفي إلى مساء اليوم التالي، وفي كل مساء تعلق على ثغرها ابتسامتها المعهودة وتعلن عن نكهتها الطازجة.
أبيات من شعر أحمد قنديل تتكئ على رصيف الكورنيش وتخرج نوافير أنوار وإبهار تغازل السياح، وثريات تتناثر هنا وهناك من قصيدة عصماء قرضها يراع الشاعر الجداوي المبدع محمد حسن عواد.
يصوغ أحمد قنديل معاناة جدة في ثلاثة أبيات:
جدا القديما أقـــال الله عزتهـا أم الرخــاء وأم الشدا بالزور
جدا التي ذكر التاريــخ سيرتها من قبل أن يشرق الإسلام بالنور
دهليز- مكة- حين اختار ساحلها عثمان مينا لأم المجلس الشورى
ويقول:
جدا حبيبة قلبي من نظمت لها أحلى القصائد شعرًا غير منثور
هل تذكرين؟ بلا شك فنحن هنا وأنت من أنت في قلبي وتعبيري
من عشتها بين أترابي بما حفلت ودنيا الطفولة قد لفت ببشـكير
دنيا الصبا وشباب الأمس تعزفها روح الشباب يا عواد بطنبور
وفي الجزء الثاني من ديوانه أيضًا عروس البحر "جدة" يقول الشاعر أحمد قنديل:
لك يا جــدة الحبيبة في القلب مكــان محبـب مألــوف
طارقيه صدى الجديدين بالأمس وما زالت الحيــاة تطــوف
أنا ابن جدة أيـاًّ كان موقفهـا من الحياة.. وأيًّا صار معناها
لا لن أفرط يوماً في محبتهــا لن يخرج الظفر من طم به تاها
نعم، جدة تحب الغزل.. تحب أن يتغزل الناس فيها، فهي كالكائن الحي تدغدغها عبارات الفرح والحب، فرائصها تتهلل للمدح، وأوصالها ترتاح للثناء.
وجدة كائن لا يبكي ولا يحب البكاء، ولذلك لسان حالها دائماً يقول: ابتسم فأنت في جدة.
وأهل جدة يعتبرون البحر الأحمر هو رئة جدة التي تتنفس منها، بل يعتبرون البحر الأحمر بمثابة المنتزة الكبير الذي يلجأون إليه للراحة والاسترخاء، ولقد أطنب الجغرافيون والمؤرخون في وصف جماله، ويقول شكيب أرسلان: إن مياهه تشبه قوس قزح في تعدد الألوان وتألق الأنوار من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنابي وبرتقالي وأخضر، ويقول:
ومنهم من يقضي بياض نهاره وسواد ليله على حافة من حافاته في خيمة أو بيت أو تحت صخرة من صخوره المجوفة التي تغسلها أمواج البحر العظيم. ومنهم من يركب الفلك الصغير أو الكبير ويزج به في عرض البحر أو خليجه، ابتغاء متعة في صيد الحوت، خاصة في الليالي المقمرة وفي الأصبحة والأمسيات.
وهناك الصخرات الجاثمة في "أبحر" أجمل شواطئ البحر الأحمر، وهناك الشواطئ الجميلة يمثلها "البر" البار بأهله. وبر جدة سوح جميل منبسط، إذا هطلت عليه الأمطار استحال إلى حديقة فيحاء وغناء، تحمل شتى ألوان النبات البري المزدهر، وترى الشجيرات والأشجار عندئذ، وقد اكتسبت من جديد خضرتها وجاذبيتها.
واليوم ارتفعت هامات الأبراج العالية على الشاطئ النضيد حتى بلغت شرم أبحر متحدية أن ترتفع إلى أعلى - كما قال الأمير الوليد بن طلال - حتى تبلغ أعلى عمائر العالم.
جدة في عرسها وفي احتفالاتها تقدم نفسها ــــ من جديد ـــ إلى اليونسكو وتؤكد بأنها مدينة تاريخية، وفيها تراث إنساني يضعها جنباً إلى جنب مع كل المدن التي ترتفع فوق أرفف منظمة الثقافة العالمية!
باختصار، حينما نشم جدة، فكأننا نشم عود كل المدن في هذه المملكة العربية السعودية الفتية من أقصاها إلى أقصاها.