بالقانون .. نقضي على النعرات
لقد كادت النعرات والعصبيات في مجتمعنا أن تخفت لكنها عاودت ظهورها الحاد على السطح، واتخذت أشكالاً تمايز بين القبيلي وغير القبيلي ونعرات أخرى بينها الطائفي والمناطقي وغيرهما.. فما الذي أيقظها؟
إنه سؤال يحتاج إلى تحليل طويل لا يتسع له المقام هنا، غير أني أرى أبرز أسبابها التالي:
1 ـــ طفرة السبعينيات الماضية التي أحدثت تحولات في البنية الاجتماعية تغيّرت فيها أوضاع الأفراد والأسر اقتصادياً وجغرافياً.
2 ـــ صعود تيار الصحوة الذي سمّم الجو المدني السائد في حقل التعليم ومحيط الأعمال والفضاء العام بالغلو والتطرف. وزعزعة المقامات المألوفة والمكانات التقليدية.
3 ـــ أثر انعكاسات تراجع الأيديولوجيات السياسية في المحيطين العربي والعالمي وقد كانت عابرة جميع أشكال التمييز.
4 ـــ الهجمة على الحداثة التي كانت تحارب النعرات بينما تتهمها الصحوة بعدم الأصالة والشعوبية والتغريب.. إلخ.
5 ـــ بروز البيروقراطية في القطاع العام وجنوحها إلى المحاباة والمحسوبية .. مما أوغر الصدور.
6 ـــ استشراء مسلكية الاستهلاك وما عكسته من مظاهر التنافس والمباهاة في البذخ والإسراف.
7 ـــ التواطؤ الثقافي والإعلامي بالسكوت عنها؛ بل مجاراتها أحيانا.
هذه الأسباب في تداخلها مع بعضها بعضا تضافرت على إحداث خلخلة في القيم والمعايير المستقرة السائدة، دون أن تجد تلك القيم والمعايير ملاذاً يسعفها من الارتباك ويمنحها موقفاً جدياً تعتصم به كي تنسجم مع تلك التحولات الاجتماعية، فكان من الطبيعي العودة إلى الذخيرة التراثية الجاهزة من النعرات لتبرير بروز الأشخاص في منصب أو تخصص أو تجارة أو ثراء ... إلخ، وإحالة ذلك البروز إلى مرجعية الحسب والنسب مثلاً، والمغالطة بالإحالة إلى الفرص حين يكون البروز لمصلحة الآخر .. رغم أن الفرص تصح في الحالتين!
ومع أن النعرات ما زالت تلعب دورها السيئ في تسميم العلاقات الاجتماعية .. إلا أننا نلاقي حرجاً كبيراً وحساسية أكبر في مواجهة ظاهرة التنابز بها على المستويين اللفظي والعملي. وحتماً لسنا استثناءً في هذه الظاهرة فهي ظاهرة عالمية عانتها الأمم وأدت إلى مآسٍ إنسانية وحروب، لكن الأمم اتخذت في سبيل القضاء عليها اتجاهين، استهدف الأول ترسيخ الوعي باحترام الإنسان لذاته بمعيار الإنجاز في العلم والعمل واعتبار الإنتاجية قيمة عليا للتميُّز.
ورغم أن ذلك أدى إلى تقدم تلك المجتمعات إلا أن سموم التمييز بقيت تشيع الكراهية والازدراء بسبب نفوس مريضة بها أو لأسباب سياسية أو اقتصادية.. فعمدت تلك المجتمعات إلى سن أنظمة وقوانين تحرم التمييز وأشكال النعرات الأخرى وهو الاتجاه الثاني الذي باتت معه جميع أشكال التمييز جريمة تستدعي جلب مَن يقترفها ''قولاً أو فعلاً'' إلى القضاء.
فضاؤنا الاجتماعي لا يزال ملبداً بغيوم هذه النعرات.. حتى لو قيلت على سبيل المزاح أو اللغو.. وحسناً فعلت وزارة الثقافة والإعلام في منعها نشر المطبوعات والكاسيتات المثيرة لها، غير أن البرامج الفضائية عن الشعر الشعبي عادت لتؤجّجها كما أن منتديات الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي مشحونة بها، بل كرّس البعض مواقع خاصة بقبيلة أو منطقة أو بلدة انجرف بعضها إلى حشد كل ''الفضائل'' لها بما لا يستبقي لغيرها شيئاً .. وزاد الطين بلة سباقات مزايين الإبل التي أكلت فيها النعرات القبلية النشاط نفسه!
ليس من سبيل للقضاء على جميع أشكال النعرات العصبية والتمييز إلا بسن قانون أو نظام ضدها، (خصوصاً والمملكة من الموقعين على وثيقة الأمم المتحدة ضد جميع أشكال التمييز)، إلى جانب دور التعليم والثقافة العامة والإعلام في تسييد قيم الأخوة الاجتماعية وروح المواطنة السوية وتغيير اتجاه القيم ومعيار الامتياز لتكون ناهضة على العلم والعمل والكفاءة في الإنتاج.
ومن المؤكد أن سن قانون أو نظام ضد النعرات لن يكون له فعل السحر .. لكن إقرار النظام وتطبيقه في الشأن العام وفي الخطاب الاجتماعي وفي مرافق العلم والعمل سيقود بالضرورة إلى أن تصبح النعرات منبوذة ومثاراً للاستنكار ومجلبة للعيب .. والألف ميل يبدأ بخطوة واحدة!