التأمين الصحي .. متى؟
تعاملت أول حياتي الوظيفية مع واحد من أكفأ القادة. كان الرجل متحمساً للتطوير، لا يعرف الراحة ولا أوقات الدوام، يتبنى كل فكرة جديدة وكأنها من بنات أفكاره. كان يقاتل في دهاليز الوزارات للحصول على الميزانيات والوظائف والمشاريع والقرارات التي تدعم هدفه النهائي وهو اللحاق بالعالم، بل ومسابقة الزمن. كان يربط كل ما يفعل مع قواعد ومبادئ الإدارة، عندما يحدث من يعملون معه، فكنت أتعلم منه جديداً كل يوم.
كان يتخذ قراراته بحزم وسرعة، ولكنه لا يخجل من التراجع عن أي قرار يثبت له عدم جدواه. هذا كان موطن الخلاف الأهم بينه وبين مساعده في تسيير الأمور. المساعد كان يرى أن التأني والتفكير وتقصي الحقائق أهم من السرعة، ولهذا أصبح الاثنان غير قادرين على التعاون وتحقيق إنجاز مشترك. استغل كثيرون تلك الحساسية فأوجدوا بين الرجلين خلافات لا أساس لها سوى السلبية وانعدام الاتصال بينهما. هذا في مجال العمل العام وهو أصعب المجالات عندما يتعلق الأمر بالتطوير.
لمسات ذلك المدير بقيت إلى اليوم، ويذكر الجميع أيامه بالخير، ولا يخجل الكثيرون منهم من القول إنها الأيام الذهبية في حياتهم الوظيفية. عمل في موقعه لمدة أربع سنوات حقق خلالها ما لم يحققه غيره في عشرات السنين. إنجازاته كانت على مسارات متعددة منها الإنساني والاجتماعي والوظيفي والتطويري. سألته وهو يغادر وظيفته ماذا تريد ممن يأتون بعدك؟ قال أريدهم أن يكملوا المشوار، وكان آخر ما فعله هو جمع كل مديري المؤسسة وأخذهم في جولة على المشاريع التي ما تزال تحت التنفيذ وحثهم على التعجيل بتنفيذها وتسهيل كل ما يحتاج إليه المسؤولون عنها. تلك كانت آخر مرة يُستلم فيها مشروع في وقته المحدد.
ميز الرجل ومثله الكثير من القادة الأفذاذ قدرته على التركيز وعدم الضياع في قنوات البيروقراطية عن الأهداف التي وضعها لنفسه. كان الاجتماع به لا يتجاوز ساعة واحدة يناقش فيها كل شيء يريده، وهو ما لم نعد نعيشه. الأهم في الرجل أنه كان عندما يتخذ القرار فهو يمضي لتنفيذه دون تراخٍ.
تذكرت سيرة هذا القائد وأنا أتابع خبراً يتحدث عن التوجه نحو التأمين الصحي على الزائرين والمواطنين في الخارج. هذا القرار هو من ضمن محاولات وزارة الصحة لتفادي القرار الأشجع وهو التأمين الصحي على المواطنين. يتفادى المسؤول القرار المهم لأسباب كثيرة، أهمها الضبابية التي تلف المستقبل. يستمر المسؤول باتخاذ قرارات جزئية لا تحقق المطلوب كلياً على أمل أن تتضح الصورة، لكن ما يحدث هو استغلال هذا الخوف بخلق نهايات غير سعيدة لكل القرارات.
المطالبة بالتأمين الصحي على كل المواطنين وابتعاد الوزارة عن تنفيذ الخدمة والاكتفاء بدور التنظيم والمراقبة، قديم جديد. المهم أنه ليس مفهوماً غريباً ولا بعيداً عن الواقع. دول أوروبا وأمريكا وأغلب الدول ذات الاقتصاد الحر تضع لمواطنيها وسيلة من وسائل التأمين سواء كانت من خلال جهات العمل أو من خلال الدولة، وهي أضمن وسائل تقديم الخدمة وضمان استدامتها عندما يتعرض الاقتصاد الريعي للهزات المالية. لكن الوزارة تستمر في معالجات جزئية لتبقى معاناتها مع الأخطاء الطبية ونقص أعداد الأسرة والكوادر الصحية والإدارية وعدم توافر الأدوية وغيرها، الأمر الذي يحول انتباه الوزارة عن دورها الأساس في ضمان أفضل خدمة صحية للمواطن.
على أن الوزارة ليست بدعاً من الوزارات، فالبيروقراطية الحكومية ترمي دوماً إلى ضمان بقاء أكبر نسبة من الأعمال والأنشطة بيد الحكومة، وذلك مرده إلى حب السيطرة ورفض التغيير. مثل هذه الإشكالات موجودة في أغلب وزارات الدولة، وهي بحكم الأزمة ما دامت كذلك. أزمة انخفاض الإنتاجية، وهدر الموارد، والظلم المستمر الذي ينتج عنه تدني الكفاءة والتذمر من قبل كل مسؤولي وموظفي القطاع العام، وللقارئ أن يبحث في كم التذمر الذي يسمعه ويقرأه يومياً في كل القطاعات.
إن التأخير الذي يسيطر على اعتماد أو تنفيذ القرارات والمشاريع والأنظمة يجب أن يختفي لنتمكن من تحقيق الإنجازات المهمة للمواطن، لعل من أهم الأمثلة على التأخير في التنفيذ قرار تغيير الإجازة الأسبوعية برغم بساطته. يدعوني هذا للتذكير بضرورة محاصرة المعارضة للمشاريع والقرارات والأنظمة المهمة، خصوصاً من قبل من يعارضون لأسباب وهمية أو غير واقعية أو يتربحون من هذه المعارضة، وهم في حالتنا كثر.
عندما تولى مهاتير محمد رئاسة وزراء ماليزيا، طلب من كل وزير أن يقدم له قائمة بالأعمال التي يمكن أن تخصص أو تنفذ بالتعاقد، وخلال خمس سنوات خصخصت ماليزيا أكثر من 70 في المائة من الأعمال التي كانت تنفذها وزارات الدولة. القرار اتخذ ونفذ ونجح، وكان الإعفاء هو نصيب الوزراء المتقاعسين.