كارثة الصمت عن الجرائم
لم يكن لفضيحة تغطية وتستر اتش أس بي سي على تجار المخدرات في المكسيك أن تتكشف لو لم يدق الموظفون الشرفاء ناقوس الخطر ويقوموا بدورهم في الإبلاغ عن التلاعبات المنحطة التي تحدث. ولم يكن لفضيحة ستاندارد تشارترد بغسيل أموال تابعة لدول ومنظمات إرهابية أن تتكشف لو لم يقم الموظفون الشرفاء بدورهم بإبلاغ السلطات بسوء فعل إدارة المصرف (المارقة) كما وصفه بنجامين لوينسكي. وبالمثل حالات فساد الشركات المالية كافة، المصرفية منها والتأمينية، تكشفت بداياتها بفعل صفارات الإنذار التي يطلقها الشرفاء الذين لا يرضون أن تدنس إنسانيتهم بالسكوت عن الجرائم، والذين لا يخضعون ويهونون تحت تأثير الضغوط الإدارية الممارسة من قبل التنفيذيين الفاسدين. الإدارة العليا لستاندارد تشارترد استخدمت أفظع الشتائم وأسوئها، ومارست أسوأ أنواع الضغوط الإدارية على الموظفين الذين أثاروا عدم قانونية أعمال المصرف مع إيران وغيرها من الدول الخاضعة للعقوبات الدولية، والحقيقة أنه لا هذا الإرهاب ولا غيره يستطيع إسكات صوت شريف يسعى لإنهاء حالة غير شريفة.
لا يسكت على الجرائم سوى اثنين، رجل منحرف يتحين الفرص ليجرم هو بنفسه، أو رجل خانع ذليل منهزم في ذاته ونفسه ومبدئه. فالأول يصمت عن الجرائم لتسود الأجواء التي تمكنه من ممارسة الجريمة، يصمت حتى يكون الانحراف والجريمة سلوكين سائدين ومستمرأين. والثاني يصمت لجبن متأصل في نفسه، وخنوع متغلغل في قلبه، وذل أوقع نفسه فيه بعد أن صدق دعوى الشيطان أن الذل والخنوع طريقان للسلامة، والحقيقة أن الذل والخنوع ليس إلا طريقين قصيرين للعبودية والخضوع. بعض المصارف الفاحشة الانحطاط والمتورطة في قضايا غسيل أموال تجار المخدرات والإرهابيين وصل بها الأمر حد تأطير وتلبيس سوء فعلها بلباس قانوني من خلال استغلال الثغرات القانونية، وهذا في رأيي رأس الفساد وقمته، ولا يبلغ الفساد هذا الحد إلا في ظرف من التسيب التشريعي، وفي كثير من الأحيان (التواطؤ) التشريعي.
إن ما أبداه الموظفون الشرفاء في المصارف المتورطة في جرائم غسيل الأموال من رفض لهذه الممارسة المخزية، وفي المبادرة لإبلاغ السلطات لهو مدعاة للتفاؤل بالمستقبل، وتأكيد على أن الخير والشرف يسودان دائما وأبدا. كما أن التعامل المسؤول الذي أبدته السلطات التشريعية في الغرب، وبالأخص سلطة المال في نيويورك، في التحقيق الحصيف وفي حماية الموظفين الشرفاء الذين قاموا بالإبلاغ عن هذه الجرائم، أمر يستحق الإشادة.
إن الصمت عن الجرائم في القطاعات المالية المختلفة كارثة حقيقية لا تؤدي إلا إلى تفريخ المزيد من المجرمين، مما سيؤدي إلى مزيد من الكوارث والمآسي التي لا يمكن حساب آثارها السلبية. إن التحقيقات المصرفية التي أظهرت أكبر عملية غسيل أموال (مثبتة) في التاريخ المصرفي تؤكد على أن المصدر الأساسي للمعلومة يأتي من الموظفين الشرفاء الذين لا يرتضون الانخراط في الأعمال المشينة مهما كانت المغريات، والذين يقدمون الصواب على الخطأ مهما كانت العواقب. إن ما أبدته سلطة المال في نيويورك لحماية مصادر المعلومات أمر مشجع لكل من يملك معلومة عن فساد أو مخالفة للقوانين الدولية الحاكمة للمصارف. كما تؤكد التحقيقات التي أجرتها سلطة المال في نيويورك على أن رفعة المنصب والصلاحيات لا تدل على رفعة الأخلاق بأي حال من الأحوال. إن العمل المصرفي أخلاقي في صميمه وجوهره، ومتى ما تخلى المصرفي عن أخلاقه الإنسانية تحول إلى كائن أشبه بالوحش الكاسر. لم يكن قول الحق في يوم من الأيام صفة إيجابية تضاف إلى سجل من يتحلى بها، بل هو واجب إنساني يعاب عليه كل من يتخلى عنه، واجب تفرضه الإنسانية.