بشروني – قالوا رحل !!

بشروني – قالوا رحل !!

بشروني – قالوا رحل !!

كنت أخلو بنفسي في بعض وقت فإذا بصوت يطرق مسمعي مبتهجاً ويردد بلحن شجي بشروني قالوا رحل أطربني جمال الصوت وتناغم اللحن مما شد انتباهي فحانت مني التفاتة لمصدر الصوت فإذا به ذاك الموظف البائس الذي قد تم نقله مؤخراً إلى وحدة التهميش في قسم النسيان كجزاء مستحق ورادع له جراء تمسكه بمبادئه التي يراها أنها رصيده الحقيقي المتبقي له في دائرة الاستهلاك الفكري ومركز الاستنزاف لكل قدرات ذلك المسكين والذي كان جل ما يحلم به نظرة رضا من مسؤولي تلك الدائرة وكان يطير فرحا وهو يسمع كلمة إشادة يتيمة لاسيما إذا ما صاحبها ابتسامة زائفة على محيا من تربع على هرم وحدة التميز المزعوم والإبداع الزائف.

وكان ذاك المغلوب على أمره يتفانى في تقديم المفيد وابتكار الجديد من الأفكار الخلابة طمعاً في الرضا المجرد من أي عوائد. ولكن دوام الحال من المحال. وكما هي عادات العقول الفارغة من أي إبداع والأنفس المريضة الحاقدة فإن نواياها لا بد وأن تطفو على السطح لتفضح أكثر مما تستر مهما تجمل صاحبها بثياب الحرص وتدثر بجلباب النصح سواءً إنسانياً أو دينياً وقد كانت النهاية المأساوية لذلك المجتهد الذي وصف لي حاله بأنه المأكول المذموم، هي رميه في غياهب المجهول كنتيجة حتمية لإنتفاء الحاجة إليه وإن كانت مكابرة من المستفيد لأنه علم دنو رحيله المبيت ولأعتقاده الجازم إن بقاء ذلك الموظف في دائرة الأضواء هي هزيمة نكراء له وكسر لكبريائه المهزوز داخلياً القابع خلف منصبه الإداري الذي منحه القدسية لكل قرار يتخذه بمباركة الجهات العليا التي مكنته من ممارسة سطوته العنجهية تحت ستار الحرص على المصلحة العامة التي تتطلب الحزم والقوة.

أبدع ذلك المسؤول في استجداء عداء كل من وقع تحت طائلة مسئوليته ممن هم لا يدخلون ضمن دائرة الحظوة الشخصية فتخبط في إدارة شئون إدارته وفشل في التعامل مع أزمات المواقف أو (ما يعرف بإدارة الأزمات) التي مرت به حيث غيب الموهوبين ورمى بالمتميزين في صحاري الإقصاء والتهميش، وعطل توظيف القدارات فضلاً عن استقطاب الكفاءات برغم وجودها الطاغي في إدارته، فتحولت بذلك بيئة العمل إلى عامل طرد وأصبح طلب النقل هو هاجس يراود عدد ليس بالقليل من الموظفين ومطلباً رئيساً لمن أراد شق حياته العملية المتطلع للكسب المعنوي فضلاً عن المادي. وكم فقدت تلك الإدارة من شخص يعد بحق خسارة فادحة ونقصا واضح في منظومة العمل بفضل سياسة الإقصاء والإحباط.

المثير للدهشة إن ذلك المسؤول يعيش تناقضاً فاضحاً فهو المتشدق بشغفه لإتباع الأنظمة ودقته في تطبيق القوانين وعند أول نقطة تعارض مع رغباته الشخصية يكون أول من يضرب بتلك التشاريع عرض الحائط دونما مراعاة لأي نقد أو أعتراض في تحد سافر لكل التشريعات والمبادئ التي يطلقها. والغريب في الأمر أنه لا يحاسب مما أحبط كل من حوله وأكد لهم عدم جدوى الرفع للجهات العليا بأي ملاحظات ناهيك عن التظلم لعلمهم المسبق بالنتيجة النهائية وهي كما يقال (ثانوية الأحد لم ينجح أحد)، في مثل هذه الأجواء الضبابية وجد محيط عمل مكهرب يتسم بعدم الثقة بأحد وجعل الكل يعيش في ريبة من أمره بل إن الشخص أصبح يخاف من حديث نفسه.

عندها فقط عرفت سر فرحة صاحبي برحيل هذا المسؤول والتي هي نتاج طبيعي لظلم قد وقع وإحباط لامس شغاف قلبه المكلوم. وبينما أنا في غمرة دهشتي من وجود مثل هذه النماذج على هرم مؤسسات مجتمعنا والتي هي سر تخلفنا عن الركب تذكرت جملة صاحب السمو الملكي خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة التي قال فيها مخاطباً أصحاب القرار : (العالم الأول أتى إلينا فماذا نحن فاعلون).

وأفقت من دهشتي بسؤالي لصاحبي ومن البديل؟ فقال: لا يهم أي كان البديل، المهم هو الرحيل وجدية التغيير. فقلت له: لا تخطئ يا صاحبي قد يصدق المثل الشهير (الله يحلل الحجاج عند ولده)، قد يكون البديل:
تشرب السياسة ذاتها أو تخرج من تحت يد ذلك الراحل وهنا تكون الكارثة أكبر وتأثيرها أصعب وأقوى. أو ربما يكون البديل ليس بالمهدي المنتظر بمعنى أنه قد يرى في سياسة سلفه الضمان الأكيد لبقاء الهيبة ومن ثم تستمر ذات السياسة في حجب الكفاءات والإخفاق في توظيف القدرات وإهدار استغلال المهارات. هنا توقف صاحبي عن حديثه وقد أفسدت عليه فرحته وأشاح بوجهه برهم ثم عاد وقال وما الحل برأيك؟

تنهدت بعمق وقلت له المهم أن يكون البديل هو بديل في كل شيئ حيث يدرس شخصية من سبقه ويأخذ إيجابياته إن وجدت ويطورها ويتعرف على سلبياته ويتلافاها.

ثم لا بد له من الجدية في تغيير جلد إدارته حتى يعود بدفة سفينته إلى جادة الصواب ومن ثم يبدأ في وضع لبنات شخصية إدارته الجديدة، هذا إن أراد النجاح ومعايشة تطور الزمن ومسايرة دوران عجلته السريعة. فما كان بالأمس صالحاً هو اليوم بلا شك فاسداً، ومن لم يتقدم فهو حتماً سيتقادم ومن تعداه الزمن فلن يعود له أبداً.

تململ صاحبي وقال: هل ترى ذلك ممكناً فعلاً أم أنه من الصعوبة بمكان؟ فقلت له ليس سهلاً ولكنه ليس صعباً. فقال: مهلا ماهذه الأحجية؟

فقلت له: ما يحكم الموقف هي عقلية البديل وفكره وتوجهه والأهم من ذلك كله هو ألا تكون الوظيفة أكبر من الإمكانات الحقيقية لذلك البديل.

هز صاحبي رأسة وأدبر وهو يردد سنرى والله يستر

الأكثر قراءة