هل يَصدق الكاتب في كل ما يكتب ؟
هل يَصدق الكاتب في كل ما يكتب ؟
عندما كتب محمود درويش قصيدته الشهيرة "عابرون في كلام عابر" شعر الإسرائيليون بخيبة أمل، حتى قالوا؛ إنها قصيدة مرت علينا كالموت، لأنهم قرؤوا بيتا في القصيدة يقول: وأقيموا حيثما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا،إذن، الكتابة تجرح من غير دم .
في وقتنا الحاضر، كثر كُتاب الأعمدة الصحفية، فأصبح القارئ المتلقي للنص في حيرة من أمره، وخصوصا عندما يرى أن المعركة توجد فيها مظلمة؛ فتحولها بعض الأقلام المأجورة إلى خيانة، فتضيع الحقيقة، ويضيع حق العباد معهم، وهذه سياسة معروفة لإدراك الرغيف، فحسن التحرير والتحبير كان سلما للوزارة كما قال المأمون لأحد الأدباء حين جود كتابا عرضه عليه . فكُتاب الحاضر تجد منهم من قال رأيين: رأيا أرضى به نفسه، ورأيا رضي عنه كيسه، حتى سيطر رأي الكيس على رأي النفس.
فالرقابة الذاتية هي أفضل الأسلحة، ومن إمتثل لهذا؛ نال مكانته بين القراء وإرتفع، والكاتب الحقيقي هو الذي ينمو بالنقد، فكما الكير يبدي عن خبث الحديد فكذلك النقاد مع الكُتاب يفعلون؛ إلا من كان عقله من صنف الطنك المصفح فحيلة النقاد فيهم قليلة، ومن باع ضميره للصنم يُخرج لنا مقالة لا بريقها يغري ولا فتونها يغوي، وما أكثر هذا الفن في وقتنا الحاضر، حتى أصبح بعضهم مثل الدجاج العجوز تبيض قليلا، وتقوق كثيرا، فتشين عطاءها بالمن والسأم .
عندما تقرأ لهؤلاء الكُتاب تحس بالملل، وإن سمحت لنفسك كتابة نقد تعالج فيه ما غفله أولئك، تبدأ التهم تكال لك بالمُد، هذا أقل شيء قد يواجه الناقد، وتكون المصيبة أكبر عندما يكتب لك في النهاية أنه يطلب رأسك، وهذه القصة قد وقعت لي مع أحد الكُتاب المزورين، دخلوا ساحة الفكر اللاعنفي خلسة، فكذبوا ونافقوا حتى إمتلأت بطونهم وأفرغت عقولهم، وكثر زعيقهم فغابت الفكرة وبزغ الصنم، وشاع بينهم حكّ لي أحكّ لك، وأثن عليّ أثني عليك .
نعم هذا هو قاموسهم الجديد، فالويل لك إن عارضت أحدهم ..، وإن كنت تؤثر رضاهم على سخطهم؛ ما عليك إلا قول، هذا جيد، هذا جميل، وإن الله خلقكم بمرسوم خاص، وترحم بينك وبين نفسك على الحريري القائل:
والصدق إن ألقاك تحت العطب ** فلا خير فيه، فاعتصم بالكذب .
ومنهم من يتهمك بالحسد، حتى صار الحسد ترس كُتاب الأعمدة الصحفية، وكاد يتجمم كل ناقد مخافة هذا الظن الشائن، لكن الإخلاص للإبداع يدرأ هذه الشبهات، وإن كان الأمر كما يعتقدون فيا مرحبا بالحساد حتى نتمكن من رفع رؤوسنا بين الأمم .
يقول المثل" المال السائب يعلم السرقة" وأنا أقول: إن الغفلة والجهالة تعلمان الكذب أو تعلمان طمس الحقيقة ولو إلى حين، فإذا كان كُتاب الأعمدة الصحفية وأصحاب الرأي يكتبون للغافلين والجهلاء فليس أصعب عليهم من الصدق وليس أيسر لديهم من الكذب والخداع والغدر والدهاء، فإذا كان المال السائب يخلق لنا السراق واللصوص الكبار فإن الغفلة تخلق الساسة الخادعين والكُتاب الكاذبين، وإن لم يكونوا قبل ذلك مطبوعين على الكذب والخداع كما يقول الراحل عباس محمود العقاد .
فليس كل سارق يستطيع أن يسرق وينجح فتنتهي مهمته بسلام، وليس كل كذاب يستطيع أن يكذب ويضلل الناس، لأن الكذب في حد ذاته عجز وليس قدرة، فالكاتب يخالف الحقيقة ويلجأ إلى الكذب إذا لم يملك قدرة الصدق، فهو يفضل الكذب لأنه عجز .
وما أكثر العجزة في الأعمدة الصحفية ! .
ويبقى السؤال : هل يَصدق الكاتب في كل ما يكتب؟
الجواب : لنستمع إلى هذا الإعتراف الذي نطق به بورخيس في اعترافاته : " كل مرة أقرأ فيها مقالا ينتقدني أكون متفقا مع صاحبه؛ بل أعتقد أنه كان بإمكاني أن أكتب أنا بنفسي أحسن من ذلك المقال، وربما كان عليّ أن أنصح أعدائي المزعومين بأن يبعثوا إليّ بانتقاداتهم، قبل نشرها، ضامنا لهم عوني ومساعدات، لكن وددت أن أكتب بإسم مستعار مقالا قاسيا عن نفسي " [1] .
* [1] يمكن مراجعة كتابات عبد السلام بن عبد العالي في تفكيك النقد