نحترم مَن ونثق بمَن؟!

في مسح ميداني في القرن الماضي في بلد المسوحات المستمرة عن كل موضوع تقريبا، الولايات المتحدة، كانت النتيجة أن القضاة والمدرسين ورجال الدين ومسؤولي المصارف يحظون بالثقة والاحترام أكثر من غيرهم في قائمة اشتملت على 18 مهنة. وكان في ذيل القائمة بائعو السيارات المستعملة وقبلهم برقم واحد (17) محترفو السياسة (بائعو الكلام) والسؤال الملح في هذه الأيام، وخاصة لمحبي الاستطلاع، ما درجة الثقة والاحترام التي يكنها الناس للمصارف وقادتها، في ظل هذه المشاكل المالية العالمية من أخطاء إدارية كبيرة تتصف بعدم النزاهة وضياع الكثير من أموال المصارف، بين الحين والآخر، وردها لأسباب تتصف بالسذاجة مثلا خطأ في تشغيل الحاسب الآلي أو أن موظفا صغيرا تصرف بمفرده. وكل ذلك لا يقنع أحدا مما أجبر أحد الهزليين إلى القول أن من كان يحاول السطو على بنك ما للسرقة يلبس قناعا وعادة يهرب من الباب الخلفي للمصرف، أما في هذه الأيام فلا حاجة للقناع ويخرج السارق من الباب الرئيس للمصرف .
إنه لوضع عالمي مؤلم ومزر وفي الوقت نفسه مكلف خاصة على أولئك الذين خسروا أموالهم من جراء هذه الأخلاقيات الجديدة في القطاع المالي العالمي وخاصة المصارف.
وأصبحنا نتوقع ما المصيبة المقبلة والتي سنفاجأ بها بعد أن كثر تعدد المفاجآت بين فترة وأخرى. والسؤال المنطقي هو كيف وصلنا إلى هذه الحال.
يدعي منظرو التنمية في الولايات المتحدة أن عظمة اقتصادها كانت نتاج احترام الفردية، بإعطاء الفرد الحرية لتدبير أموره وإبعاد الحكومة من التدخل في شؤونه وخاصة الاقتصادية منها. وبدأت في أوائل أواخر القرن الماضي حملة مسعورة في تلك البلاد لإبعاد الحكومة الفيدرالية من التدخل في حياة الناس وتحجيمها كما ادعى البعض. وتوجت تلك الحملة بانتخاب ريجان رئيسا في عام 1980 الذي وعد بكل ما أوتي من بلاغة بإعادة الاقتصاد الأمريكي إلى جذوره الأصلية والتي يفهمها ومن أيده على أنها إعطاء القطاع الخاص كل الحرية وإيقاف تدخل الدولة في شؤون الاقتصاد. قدر المستطاع. معتمدا بذلك على أن الاقتصاد التي تتحكم في إدارة فعالياته آلية السوق الحرة لا يحتاج إلى تدخل البيروقراطية الحكومية. وفي تلك الأثناء وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي أتت تاتشر في بريطانيا والتي كانت من أشد مؤيدي أفكار الرئيس الأمريكي ريجان. واكتملت الصورة ورفعت فكرة ترك الاقتصاد يدار بآلية السوق (إيمانا بمبدأ الاقتصاد الحر) وإبعاد تدخل الدولة عنه إلى درجة القدسية. وساند وأيد هذه الفكرة مجموعة من الاقتصاديين قصيري النظر والتي آمنت بما سمي فيما بعد اقتصاد العرض Supply side economics والتي تقوم فكرته الأساسية على أن تخفيض الضرائب سيؤدي إلى نمو الاقتصاد بسرعة أكثر وعندها تستطيع الدولة أن تجني واردات من نموه أكثر مما خسرت حين خفضت الضرائب. ونسي عباقرة تلك الفكرة أن ذلك يتطلب أن تخفض الدولة أولا من مصروفاتها وبعدها قد يحدث ما ذكر وذلك يتطلب وقتا. وللمعلومية لم يخفض ريجان من مصروفات الدولة مع تبنيه تلك الفكرة، ولهذا حين انتهت رئاسته كان العجز المالي الفيدرالي هو الأعلى في تاريخ الولايات المتحدة وذهبت أدراج الرياح وعودة الانتخابية بتخفيض العجز وتحجيم الحكومة الفيدرالية. ويبدو أن صندوق النقد الدولي ومعه البنك الدولي آنذاك صفق لتلك الأفكار وأيد ابتعاد الدولة عن الاقتصاد وإعطاء القطاع الخاص الحرية في نشاطاته الاقتصادية ومن أجل تحقيق هذه السياسة، إبعاد الحكومة من التدخل، طغت أفكار للتخلص من إدارة وامتلاك الدولة أصولا منتجة للخدمات والبضاعة (التخصيص). ولهذا قاد ريجان وتاتشر العالم إلى التخلص من الهيئات الرقابية على الاقتصاد وأطلقا العنان للغريزة الفردية بالسير على الغاية تبرر الوسيلة. ونظرا لأن اتحادا خفيا قد نشأ ونما بين مصالح محترفي السياسة ورجال الأعمال، وخاصة القطاع المالي، حطمت تقريبا أو خفف من تأثير الوسائل الرقابية في المصارف بالذات (يقال إن تكلفة حملة انتخاب نائب في أمريكا والتي تحدث كل سنتين هي 20 مليون دولار وتقدر تكلفة انتخابات الرئاسة الأمريكية هذه السنة بمليارات الدولارات).
وفي تلك الفترة حاول الكثير من العاقلين في الاقتصاد التحذير من ذلك الاندفاع إلى تطبيق مبادئ الاقتصاد الحر دون صمامات أمان في حال فشل السوق، ونظرا للنشوة العارمة من النجاحات في المدى القصير، لم يسمع لهم.. وهكذا انتشرت أفكار ريجان وتاتشر في العالم أجمع وسيطر رجال الأعمال عن طريق مجموعات الضغط على مفاصل الهيئات التشريعية في جميع أنحاء العالم تقريبا. واستمرت النشوة حتى إن بعض المصارف في الولايات المتحدة بدأت بالإقراض دون الحذر وارتفع الإقراض إلى نحو 50 ضعفا للأموال المتوافرة. وهكذا فجأة انهار بنك ليمان براذرز وبدا الانهيار المالي (الأزمة تلطفا) الكبير منذ عام 2008 وما زلنا نعانيه حتى الآن . وماذا قال مقدسي أفكار الاقتصاد الحر المطلق وأبعاد تدخل الدولة حين بدأت المصيبة! اتركوا الأمر لميكانيكية السوق فهو كفيل بتصحيح الوضع. والحمد لله أن العالم لم يتبع نصائحهم في هذه الحالة وتدخلت الدول مباشرة لإنقاذ القطاع المالي العالمي. وأثناء البحث عن الأسباب التي أدت إلى تلك الأزمة المالية وجد أن غياب الرقابة النزيهة والكفؤة على أعمال المصارف بالذات إضافة إلى عمليات الغش والتضليل كانت السبب الأكبر في خلق تلك المصيبة، أضف إلى ذلك عدم إنصات محترفي السياسة إلى تحذيرات أكثرية الاقتصاديين بأن إطلاق الحبل على الغارب لن يؤدي في النهاية إلا إلى مثل هذه الأزمة. وظننا أن العالم تعلم درسا قاسيا من تلك الأزمة وبدأ بسن قوانين رقابية صارمة وخاصة على عمل المصارف إلى أننا فوجئنا بما يسمى فضيحة اللايبر (سعر الفائدة لاقتراض لليلة واحدة دون ضمان بين المصارف البريطانية)، وهو مستوى فائدة مرجعية عالمية تتأثر به تريليونات الدولارات من الأموال في كل النشاطات الاقتصادية في العالم. إذ تبين أن بنك باركليز (من أهم المصارف العالمية) كان يدير دفة التلاعب بمستوى اللايبر وما زلنا في أول التحقيقات والتي قد تطول مصارف كثيرة في العالم.
أي احترام وأي ثقة يستطيع الفرد أن يمنحها القائمين على قيادة المصارف في العالم؟ لقد كان الرصيد الأسمى والأنبل لأي مصرف هو الثقة التي يؤمن بها المتعاملون معه، فماذا بقي للمصارف المعطوبة والمشكوك في نزاهة القائمين عليها من ثقة واحترام بعد ما حدث منذ عام 2008 بالذات، وانسحب مع الأسف على كل القطاع المالي برمته في العالم والذي وصف حديثا بأنه فاسد من جذوره إلى أعلاه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي