طب مالي بديل
في أوروبا تتصارع حكومات عديدة مع تبعات النمو، بعد أن شرعت في مسار ضبط الأوضاع المالية، في حين كانت اقتصاداتها لا تزال ضعيفة. ونتيجة لهذا، تحول تثبيت استقرار الدَّين إلى هدف بعيد المنال على نحو متزايد.
وفي الولايات المتحدة بدأت عملية ضبط الأوضاع المالية بالكاد. ولأن الاقتصاد الخاص أصبح الآن أكثر قوة، فإنه قد يستفيد من المزيد من ظروف النمو المبشرة، ولكن حجم التقشف المالي المطلوب - أكثر من عشر نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لصندوق النقد الدولي- بات مخيفاً.
لا تزال كل حكومات الدول المتقدمة ملتزمة رسمياً بتكبُّد الآلام المترتبة على التكيُّف. ولكن كم من هذه الحكومات قد يصيبها الإنهاك قبل تنفيذ هذا البرنامج بالكامل؟ إن البعض منها قد يلجأ، طوعاً أو كرهاً، إلى التضخم أو فرض تدابير إدارية تهدف إلى محاصرة المدخرات المحلية واستغلالها لتمويل الدولة والإبقاء على أسعار الفائدة على السندات منخفضة (أو ما يُطلق عليه أهل الاقتصاد وصف القمع المالي) أو إعادة هيكلة الديون الصريحة في نهاية المطاف.
لقد استُخدِمَت كل العلاجات غير التقليدية الثلاثة في أزمات ديون سابقة. وبوسعنا أن ننظر إليها باعتبارها أشكالاً بديلة للضرائب، ولو أنها ضمنية أكثر من كونها صريحة. وهي في نهاية المطاف أساليب مختلفة، لإرغام الجيل الحالي وأجيال المستقبل على تحمُّل أعباء الديون المتراكمة.
ولكن هل من المفضل أن يتم الضبط بالكامل؟ أم أنه من المستحسن أن يتم مزج عملية ضبط الأوضاع المالية بجرعة من الطب البديل؟
هنا، تُصاغ المناقشة غالباً بمصطلحات أخلاقية. فضبط الأوضاع المالية، كما يُقال لنا، محمودٌ ومستحبٌ من الناحية الأخلاقية، في حين ترقى البدائل كافة إلى التبرؤ من العقود التي أبرمتها الحكومات مع حاملي الأسهم.
قد يكون هذا صحيحاً، ولكن الحكومات عبارة عن حيوانات سياسية. فهي تهتم برفاهة الناخبين أكثر من اهتمامها بالمبادئ الأخلاقية. لذا من الجدير بنا أن نناقش بعبارات اقتصادية بحتة ما الذي تنطوي عليه الخيارات التقليدية وغير التقليدية من منظور العدالة والكفاءة.
ولنبدأ هنا بالعدالة. من هذا المنظور، يصبح من الصعب رفض خيار التكيُّف. إن الجمع بين فرض الضرائب وخفض الإنفاق من شأنه أن يسمح بتوزيع عبء التكيف بدقة بالغة. والقرار هنا يرجع إلى المشرع. فبعض التعديلات، كما هي الحال في فرنسا في الوقت الحاضر، تلقي بثقلها في الأغلب على الأفراد من أصحاب الدخول المرتفعة والثروات الضخمة، وأخرى كما هي الحال في إيطاليا، تلقي بثقلها على المتقاعدين من أصحاب المعاشات. والواقع أن هذه الخيارات اتخذت بطريقة ديمقراطية، في البرلمانات، كجزء من القرارات الخاصة بالميزانية.
ولكن الأساليب غير التقليدية أقل رشاقة وأكثر إبهاماً. فالتضخم يؤثر في أصحاب الأصول (مثل السندات) أو الدخول (مثل الأجور والدخول من حسابات الادخار) التي لم يتم إدراجها تحت مؤشر للأسعار (أو بخس حقها في التقييم). ويُعَد القمع المالي في الأساس شكلاً من أشكال فرض الضرائب الإدارية على المدخرات المحلية. وتأتي إعادة الهيكلة بمنزلة ضريبة تفرض على ثروات حاملي الأسهم، بما في ذلك مدخرو معاشات التقاعد المنتمون إلى الطبقة المتوسطة. ولأسباب خاصة بعملية التوزيع، فلا يبدو هناك أي سبب وجيه للجوء إليهم بدلا من الاعتماد على الضرائب المباشرة.
ولكن هناك استثناءات على الرغم من ذلك. فأولا، قد تكون الحكومات والبرلمانات غير قادرة سياسياً على تحمُّل المسؤولية عن الخيارات الخاصّة بالتوزيع فيفضل إبقاؤها مستترة. وهو ليس بالسبب الوجيه، ولكن هذا يحدث بالفعل.
وثانيا، تؤدي إعادة الهيكلة إلى تركيز العبء على هؤلاء الذين يحملون السندات الصادرة قبل تاريخ توقف محدّد. وبالتالي فإنها ترسم خطاً فاصلاً بين الماضي والمستقبل - وهو ما يؤدي إلى ما أطلق عليه جون ماينارد كينز وصف ''القتل الرحيم لأصحاب الدخول الثابتة''. وعندما تصبح الأعباء المترتبة على انحرافات الماضي أثقل مما ينبغي، فقد لا تكون هناك وسيلة أخرى لحماية أجيال المستقبل.
وأخيراً، يفرض كل من التضخم وإعادة الهيكلة بعض الأعباء على حاملي السندات غير المقيمين (عبر خفض أسعار الصرف والخفض المباشر لقيمة الأصول، على التوالي). وفي نظر دافعي الضرائب، تصبح هذه الصيغة مغرية، خاصة عندما تكون حصة ضخمة من الدَّين بين أيادٍ خارجية. ولكن إرغام الأجانب على الدفع أمر محل جدال. ففي نهاية المطاف، لم يكن الأجانب هم المستفيدين من المنافع العامة أو التحويلات الممولة بإصدار الدين. وبالتالي فلا بد من الاحتفاظ بهذه الصيغة لحالات عندما تصبح الدولة ككل معسرة.