وجاء أوان الجرد.. وتجفيف المعتمد
في مثل هذا الوقت من كل نهاية عام مالي، وعلى أبواب صدور الميزانية العامة للدولة، تدب حركة نشطة في الجهات الحكومية، إنما من نوع لا علاقة له بتفعيل كفاءة العمل فيها أو الارتقاء بنوعيته، فهو ينصب في اتجاه واحد ولهدف واحد.. أما الاتجاه فيعمد إلى جرد مقتنيات الجهة من أثاث مكتبي أو أجهزة وما إلى ذلك، لمعرفة العدد والنوع وحتى من عليه العهدة منها!
هذا الاتجاه يخفي وراءه هدفاً لا يخلف دوره في التطبيق، وهو أن يكون مبررا ومساعداً لاستنفاد ما لدى الجهة من بند المصروفات في معتمد ميزانيتها الخاص بالمشتريات للأثاث المكتبي وخلافه، إذ غالباً ما يتم التحفظ في الصرف على المستلزمات المكتبية أو غيرها خلال العام إلا في حدود الاحتياج الضروري، غير أن هذا الاحتياج يصبح مع الجرد في نهاية العام المالي واسعاً إلى درجة تقتضي صرف آخر قرش في اعتماد الميزانية لهذا الغرض.
ما يدفع الجهات الحكومية لهذا السلوك في المثابرة على تجفيف المعتمد، هو قناعة تقليدية في أن بقاء جزء من الاعتماد دون صرفه سيشكل أثراً سلبياً في ميزانية الجهة، ينعكس على حجم ما سوف يعتمد لها العام المقبل، لأنه في حال وجود أموال في ميزانية الجهات فإنها نظامياً مطالبة من وزارة المالية، بإعادتها إلى خزانة الدولة. ذلك سيعني للجهة تأكيداً منها للمالية بأن الاعتماد السابق كان أكبر من احتياجها الحقيقي وسيترتب على ذلك - كما هو الظن الجازم!! - أن وزارة المالية ستعمد عند إقرار ميزانيات الجهات للعام المالي الجديد إلى وضع هذا في الاعتبار، ليصبح حسماً سالباً يقلل الاعتماد، فيما كل جهة حريصة على زيادة مخصصاتها وليس التقليل منها.
إذاً، الجرد السنوي ما زال آلية لفتح شهية الاستبدال وتجديد الأثاث المكتبي وسواه، حتى لو كان الأمر لا يستدعيه، بل إنه - في معظم الأحوال - نوع من الإسراف والهدر ليس له مبرره الفعلي. ما قد يتطلب منظوراً جديداً في هذا الشأن من قبل وزارة المالية تطمئن به الجهات على أن احتياجها لن يطوله النقص، ويمكن أن يتم هذا من خلال تقييد المبالغ المتبقية في ميزانيات الجهات كأرصدة لها تعاد إليها مع ميزانياتها الجديدة دون أن يتم حسابها بأثر رجعي سالب على ميزانيتها الجديدة، أي منح الجهة المبلغ المعتمد السابق أو ما يزيد عليه إذا أبدت الجهة مبررا، أو أن يبقى بند المصروفات لجميع الجهات لدى وزارة المالية نفسها ويتم طلب الصرف لغرض المشتريات من وزارة المالية بآلية واضحة محددة تتعامل بموجبها الجهات، بحيث تتم الاستجابة بالسرعة المطلوبة دون تعقيدات روتينية طوال العام المالي كله.
التجربة المستمرة في ''هوجة'' الجرد و''نفض الخرج'' أو تجفيف الاعتماد توضح دون لبس أن هذا هو ما يتم في الغالب، ليس لأن إدارات الجهات غير مسؤولة أو غير أمينة على ما لديها من اعتماد، بل فقط لأنه استقر في الأذهان أن عدم استهلاك المعتمد الحالي يؤثر بالنقص حتماً في المعتمد اللاحق. وربما كانت هذه القناعة ناجمة عن تجربة حقيقية للبعض جعل الجميع يضعونها نصب أعينهم ويحفظون الدرس جيداً في استراتيجية تجفيف الاعتماد أو استنفاد آخر قرش من ميزانية الجهة. فهل من سبيل إلى منظور آخر لا ضرر فيه ولا ضرار للمال العام؟!