لماذا يهمش العرب دور مفكريهم؟
الشعوب يجب أن يقودها مفكروها. والقيادة هنا لا تعني أن نضع الفلاسفة والمفكرين محل الرؤساء والملوك والوزراء وقادة الجيوش. قيادة الفكر الإنساني الراقي المستند إلى الأخلاق الإنسانية السامية يعني تأثر المجتمع وقيادته السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها بالمفكرين والفلاسفة.
والأمة التي لا تحتفي بمفكريها وفلاسفتها وتستقي وتنهل من معارفهم وتفسيراتهم للظواهر الحياتية المختلفة وتبسّطها كي يفهمها الناس ويتمكنوا من معالجة شؤون ومحن حياتهم العامة والخاصة، تراوح مكانها، وقد يحدث أن ترجع القهقرى.
أما الأمة التي تحجر على المنطلقات الفكرية، لأن من وجهة نظر قادتها ونظمها ومؤسساتها تخالف المألوف لديها، أو أنها قد تحدث شرخا فيما تراه بديهيات حياتية أو مسلمات مطلقة، فإنها تركن نفسها على هامش التاريخ الإنساني، وتكون مساهمتها في تطوره ورقيه وازدهاره هامشية أيضا.
ومن الأقوال التي تؤلمني وتجرحني هي تلك التي يجابهني فيها بعض المثقفين والأكاديميين الغربيين في كثير من المنتديات التي أحضرها أو ألقي محاضرات فيها، حيث يطرحون ما يرونه حقائق أن الإسلام كفكر لا يقبل أفكارا أخرى تعارضه.
ووقع هذه الأقوال شديد إلى درجة أنه أحيانا أكاد أن أفقد أعصابي، لأن كل استشهاداتهم على أقوالهم يستقونها من الوضع العربي والشرق الأوسط الراهن، حيث إن الفئات والطوائف والمذاهب الإسلامية المختلفة تتكئ على اقتباسات إسلامية خارج سياقها وتوظفها في محاربة بعضها للآخر، لا بل أحيانا للتنكيل ببعضها الآخر، وصرنا نرى ضياعا ليس لمجتمعات برمتها، بل دول بأكملها. وهؤلاء الأكاديميون أذكياء، حيث يسندون أقوالهم إلى ما يستقونه من خطابات تنقلها الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات ومن مصادر إعلامية كبيرة لها ملايين المتابعين.
رغم الضغط الهائل الذي نتعرض إليه ورغم الوضع الحالي في الشرق الأوسط الذي لا يبشر بالخير، فإننا أيضا لدينا من الأدلة التاريخية والفكرية، التي تقحم ليس فقط هؤلاء الأكاديميين، بل كل الفئات العربية والإسلامية، التي تنتهج مسارات أراها شخصيا خارج سياق الفكر الإسلامي النير والمتسامح.
العرب والمسلمون كونوا حضارة راقية تستند إلى الفكر الإنساني النير عندما كانت الشعوب الأوروبية تعيش في عصر الظلمات تقودها المؤسسة الدينية الظلامية. وبينما كان التلامذة العرب في بغداد وأمصار أخرى يقرؤون ويبحثون في الفكر والفلسفة اليونانية بعد ترجمتها إلى العربية في القرون الوسطى، كانت الشعوب الأوروبية تتصارع على أحقية مذاهبها ونهجها وكيفية تطبيق فتاوى كبار رجالات دينها.
الإسلام سراج ونور، ولا يمكن لأي فكر أن يطفئه. بالعكس زادته الفلسفة اليونانية إشعاعا، حيث وصل نوره إلى أقاصي الدنيا، لأنه قدم نموذجا أخلاقيا رفيعا وساميا تجاوز بإنسانيته ما كان متوافرا لدى أمم أخرى. ألم يكن الفكر النير والأخلاق الحميدة والسامية التي حملها التجار والمتصوفة المسلمون معهم إلى جنوب شرق آسيا سببا في دخول أفواج من الأمم الإسلام هناك، وليس الفتوحات، حيث إنهم اليوم يشكلون غالبية المسلمين في العالم؟ فلِمَ الخشية والخوف من المفكرين والفلاسفة في العالم العربي؟
أمة بعظمة فرنسا وتاريخها وتطورها ومساهمتها في الحضارة الإنسانية تقول اليوم في واحد من مفكريها وفلاسفتها العصريين وهو إمانوئيل ليفيناس: "لو لم تنجب فرنسا غير هذا المفكر لكفاها فخرا وزهوا بين الأمم".
ولكن من هو ليفيناس وما طول قامته إن وضعناه أمام العملاق العربي ابن خلدون مثلا. هل تعلمون أن الغرب بدأ يكتشف ابن خلدون من جديد، وأخذت تراجمه والدراسات الكثيرة عنه تدخل في شتى المعارف ومنها مراكز البحث الاستراتيجية في الولايات المتحدة؟
ابن خلدون أعظم من ليفيناس رغم الفارق الزمني - نحو 700 سنة - الذي يفصلهما. ولكن لليفيناس شعب يفهمه ويقدره.