أنهار من العرق

أنهار من العرق

أنهار من العرق

إن من أسهل الطرق أن تستلقي على ظهرك أو أن تجلس متكئا وتردد كالآخرين سأبني لنفسي مجدا و مستقبلا باهرا, أو أن تمني النفس بالوصول إلى أعلى المناصب القيادية والاجتماعية . وربما تسرح بعيدا فيُخيّل لك أنك تملك أموالا وأملاكا, كلنا فعلنا ذلك فقد بنينا لأنفسنا خططا وأحلاما وأفكارا منها ما كان شخصيا ومهنيا ومنها ما كان تربويا واجتماعيا , ولكن أين نحن منها الآن , لماذا تمر السنون وهي لا تزال حبيسة العقل أو الأدراج .

نحن للأسف على كافة مستويات المجتمع بارعون جدا في الكلام والأحلام , ومُبهرون في صناعة التصريحات وتكوين اللجان ! فذلك سهل جدا من وراء الأرائك لأنه لا يكلفنا شيئا. ولكن لماذا لا يسأل الواحد منا نفسه ما هي الكلفة الحقيقة لتغيير النفس أو الأسرة أو الحي أو الأمة , و ما هو الثمن الذي لابد أن يُدفع لتحقيق تلك الأماني و الأحلام .

لن يتحرك الواحد منا قدر أنملة لا على المستوي الشخصي ولا الأسري ولا حتى المهني أو التربوي إذا ظل واقفا في مكانه بين الحلم والفعل. لننظر حولنا فكم من طالب منا أراد أن يتخرج من الجامعة ولم يفعل , وكم واحد منا أراد أن يبني مسكنا لنفسه وأسرته ولم يفعل , و كم من شخصا أراد أن يغير ويطور نفسه ولم يفلح , و كم من إنسان أراد أن ينفع بلده أو أمته ولم يتحرك , كل ذلك لم ولن يحصل طالما أردنها سهلة طرية بدون جهد وتعب وعرق.

دعونا نتساءل لماذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يضرب بالفأس تلك الصخرة المعترضة في معركة الخندق بيديه , ولماذا يحمل اللبنات بنفسه لبناء المسجد النبوي , ولماذا الهجرة في الصحراء القاحلة ولماذا ولماذا ...., ألم يكن الرسول عليه الصلاة السلام يستطيع أن يدعوا فيستجاب له , نعم يستطيع ولكنه أرادها رسالة واضحة لنا كالشمس الناصعة , لابد من الجهد والتعب والعرق.

بل ما من عالم أو مفكر أو منجز نقش اسمه في التاريخ إلا من بعد جهد وتعب وعرق , وذلك ينطبق علينا نحن أيضا مهما كبرت أحلامنا أو صغرت. لقد عمل ابن حنبل حمّالا وجاع وتغرب في البلاد , وطافها شرقا وغربا , طولا وعرضا. وظل عطاء طالبا للعلم في الحرم ثلاثين سنة, وسار الصحابي جابر بن عبدا لله رضي الله عنه من المدينة إلى الشام من أجل حديث واحد فقط !.

ولم يكن ذلك مقتصرا على العصور المتقدمة فتلك حقيقة جارية في كل العصور فقد عمل الراجحي طباخا وحمّالا , وكان بيل غيتس يأكل البيتزا الباردة ويبقي طوال الليل في المكتب , وسار غاندي ماشيا على قدميه آلاف الأميال من أجل قضيته . وشرّح الطبيب الانجليزي رونالد روس أكثر من ألف بعوضة في الهند في أجواء حارة و رطبة, وكان يعيش بين الآلاف البعوض بدون تهوية أو تبريد حتى لا يتطاير البعوض من حوله فأصبح العرق أنهارا من أجل إيجاد ميكروب الملاريا القاتل,ولذلك قال ابن القيم " لا راحة لمن لا تعب له ".

لقد خدعنا من قال لنا إن الراحة نجدها على شواطئ البحار الناعمة , وخدعنا من قال لنا إن الراحة في أحضان العشاق , وخدعنا من قال لنا إن الراحة في كثرة الأكل والشرب والنوم , لقد كانت راحتهم في التعب , ونحن نتعب من كثرة الراحة !!.

الأكثر قراءة