قرض الصندوق السيء .. المباح

قرض الصندوق السيء .. المباح

قرض الصندوق السيء .. المباح

انطلقت النقاشات التي دارت في الساحة المصرية حول قرض صندوق النقد الدولي لمصر في الآونة الأخيرة في معظمها من منطلقات أيديولوجية بعيداً عن الواقع ودون النظر إلى القواعد الكلية في الشريعة الإسلامية. الأمل لا يزال يحدونا في أن تنأى هذه النقاشات عن شد وجذب الاستقطاب السياسي، وأن تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة بعيداً عن مصالح فئوية ضيقة لمن يَحكم أو لمن يُحكم.

وما يثير الانتباه أن معظم الاعتراضات علي الاقتراض من صندوق النفد الدولي تعترض لمجرد الاعتراض دون طرح بديل أفضل أو متاح للخروج من أزمة مصر الراهنة يعالج الأزمات الملحة التي تستلزم التعامل معها في الاجل القصير. لقد خلّف النظام السابق بلداً وقد طاله الانهيار في جميع مرافقه؛ مما أوجد حالة لغريق يحتاج إلى ما ينقذه قبل الحديث عن بناء سفينة تحفظه من الغرق مستقبلاً. فالأزمة التي تعاني منها مصر حالياً تستلزم حلولاً عاجلة في الأجل القصير ويستحيل تأجيل التعامل معها إلي الأجلين المتوسط أوالطويل لحين بناء سفينة التنمية، وتتمثل هذه الأزمة في أمور ملحة تتعلق بالمتطلبات الأساسية للإنسان من مأكل ومشرب وأمن وعلاج ومسكن كي تبقيه على قيد الحياة.

ولنطرح سويا جميع الخيارات المتاحة أمام الحكومة الحالية للتعامل مع هذه الأزمات الملحة، مع لفت الانتباه الي أنه ليس من الضروري أن يكون الخيار الأفضل ممكنا أو مسعفا، وليس كل ماهو ممكن من الخيارات هو الأفضل بالضروري. ويعلم الاقتصاديون أن الخيارات في مثل الحالة المصرية تكون محدودة علي سبيل الحصر، ومنها ما تكون آثاره عاجلة علي أرض الواقع (حلول قصيرة المدي) ومنها ما لن تظهر آثاره إلا في الأجلين المتوسط أوالطويل.

1- ويتمثل الخيار الأول والأفضل أمام الحكومة المصرية في الاستثمار سواء اعتمد علي مواردنا الذاتية وهو الأفضل أو على استثمارات أجنبية. ورغم أن هذا الخيار هو الأكثر فعالية والكفيل بالوصول الي الاقتصاد المصري إلي العافية وتحقيق معدلات نمو مرجوة، إلا أنه لن تظهر آثاره إلا في الأجلين المتوسط أوالطويل، ولا يستطيع إيجاد حلول عاجلة لحالة الغرق التي يعاني منها الاقتصاد حالياً.

2- ويتمثل الخيار الثاني في الإصدار النقدي: ويعلم القاصي والداني ما للإصدار النقدي غير المقرون بزيادة في إنتاج السلع والخدمات من آثار تضخمية خطيرة ترفع الأسعار بشكل يؤدي في نهاية المطاف إلى الإضرار بالطبقات الفقيرة وتوسيع الهوة في توزيع الدخول بين طبقات المجتمع.

3- أما الخيار الثالث والأخير فيتمثل في سعي الحكومة إلى الحصول علي السيولة النقدية من الغير، ولدى الحكومة في هذا الشأن خياران: إما أن تلجأ إلي الاقتراض الداخلي من الأفراد والشركات والبنوك من خلال أذون الخزانة وإما إلي الاقتراض الخارجي من مؤسسات التمويل الدولية والتي من أهمها صندوق النقد الدولي. وبغض النظر عن التفاوت الكبير في تكلفة الاقتراض بين الاقتراض الداخلي (سعر الفائدة حوالي 11.3%) وبين الاقتراض من صندوق النقد الدولي ( سعر الفائدة حوالي 1.1% )، فإن لجوء الحكومة إلي الاقتراض الداخلي يمثل مزاحمة للقطاع الخاص في الحصول علي السيولة مما يؤثر سلبا علي معدلات الاستثمار.

وبالتالي يصبح الخيار الوحيد والعاجل والأقل تكلفة أمام الحكومة المصرية لمواجهة المشاكل والأزمات الملحة والعاجلة هو الحصول علي قرض من صندوق النقد الدولي خاصة وأن تكلفة الاقتراض وهي معدل الـ 1.1% كسعر فائدة عبارة عن مصاريف إدارية ولا تعد ربا من المنظور الشرعي. وبفرض أن الاقتراض من صندوق النقد الدولي يقترن بأسعار فائدة خلاف المصاريف الإدارية فإننا نحتاج إلى النظر إلى القواعد الكلية في الشريعة الإسلامية والتي من أهمها " الضرورات تبيح المحظورات " و " الضرورة تقدر بقدرها "، فالأزمات والمشاكل التي يعيش فيها قطاع عريض من الشعب المصري والتي تتعلق بلقمة العيش التي تبقيهم علي قيد الحياة تفرض ضرورة سد رمق هؤلاء حتي ولو بأمر محظور شرعاً علي ألا يتم التوسع فيه .. فالاقتراض بفائدة محرمة وإن كان خيارا سيئاً اقتصادياً وشرعياً، إلا أنه إذا صار الخيار الوحيد لإبقاء الناس علي قيد الحياة فإنه يباح .. والله أعلم.

الأكثر قراءة