أوروبا وسُم المحصلة صِفر

عندما ينظر أي مجتمع إلى مشاكله بشكل منفرد من خلال منظور النزاعات المتعلقة بالتوزيع، فإن فرص نجاحه في حل هذه المشاكل تتضاءل إلى حد كبير، وذلك لأن عقلية ''نحن في مقابل هم'' تعمل على تشويه التحليل وحجب الحلول الكفيلة بتحسين الوضع العام بشكل لا لبس فيه. إن كل اختيار سياسي يُنظَر إليه باعتباره لعبة محصلتها صفر، حيث يشكل أي مكسب لمجموعة بعينها خسارة مساوية لمجموعة أخرى بالضرورة. وهنا تتلاشى مفاهيم الثقة والتقدم.
لقد شهدنا في الماضي المدى الذي قد تذهب إليه مثل هذه الصراعات ــ بين الأغنياء والفقراء، أو بين أصحاب العقارات وأهل الصناعة، أو بين رأس المال والعمالة ــ في عرقلة التنمية. ونحن نشهد اليوم في أمريكا كيف أسفرت الخصومات المتأصلة عن الوصول إلى طريق مسدود فيما يتصل بالضرائب والموازنات. وهناك العديد من الأمثلة للإصلاحات الاقتصادية الفاشلة التي تتلخص في الأساس في نفس منطق المحصلة صِفر.
ويتجلى هذا المنطق في أبرز صوره اليوم في أوروبا. فمنذ بدأت أزمة اليورو، قبل ثلاثة أعوام، نشأ صراع مستمر بين قراءتين لهذا المنطق.
فيؤكد التفسير الأول أوجه القصور التي تعيب عملية صنع القرار السياسي في منطقة اليورو والإصلاحات المطلوبة لعلاج أوجه القصور هذه. ويسلط الثاني الضوء على الإخفاقات الفردية لدول منطقة اليورو والتكاليف التي تفرضها هذه الإخفاقات على الدول المجاورة. وحتى وقتنا هذا، ساد توازن فظ بين هذه التفسيرين .. لكن التفسير الثاني يكتسب وضع اليد العليا على نحو متزايد.
ففي شمال أوروبا، تزايد غضب الرأي العام بفعل ما ينظر إليه كثيرون باعتباره محاولة من قِبَل دول الجنوب لسلب مدخرات الشمال. وفي هذا الصدد، كان الخطاب الأخير الموقع من قِبَل 160 اقتصاديا ألمانيا، يزعمون فيه أن خطة الاتحاد الأوروبي لإنشاء اتحاد مصرفي ليست أكثر من محاولة لإرغام ألمانيا على دفع ثمن أخطاء إسبانية، كاشفاً إلى حد كبير.
والواقع أن خبراء الاقتصاد يتجاهلون إلى حد كبير مشكلة الهشاشة المالية، التي من المفترض أن يعالجها الاتحاد المصرفي، ويزعمون بدلاً من هذا أن المشاكل ستتلاشى إذا توقفت الحكومات عن التدخل في الأزمة المصرفية. وهم يبالغون في تقييم الخطر المتمثل في احتمالات تحول خطة التأمين المشترك على الودائع إلى قناة ضخمة لتحويل الأموال بين الشمال والجنوب.
وفي المقابل تشعر بلدان جنوب أوروبا بالغضب. فأخيرا، انتقد رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي نشوء ''الديمقراطية الائتمانية'' الأوروبية ــ انتقال الحكم إلى هؤلاء الذين يتظاهرون بكونهم على الجانب المعطاء من أوروبا ــ وأشار إلى أنه خلافاً للفهم الواسع الانتشار، فإن إيطاليا لا تعتمد على دعم أي شخص آخر. (الواقع أن إيطاليا تساهم في دعم دول أخرى أضرتها الأزمة، وهذا يعني أنها من الناحية الموضوعية لا تزال دولة دائنة).
لا شك أن فِكر المحصلة الصفرية الذي يعزز الانقسام بشكل متزايد في أوروبا ليس بالفكر الجديد كليا: إن الاتحاد الأوروبي معتاد على النزاعات المرتبطة بالتوزيع، وتُعَد المناقشات المطولة للموازنة (التي تجري كل سبع سنوات) من الأحداث المريرة عادة.
لقد استشعر رجل واحد اقتراب هذا المأزق. فقد كتب رجل الاقتصاد الأمريكي مارتن فيلدشتاين في عام 1997 أن الاتحاد النقدي من شأنه أن يخلق الصراع داخل أوروبا. وفي ذلك الوقت، قوبل كلامه هذا بالسخرية واعتُبِر معارضاً أصيلاً للمشروع الأوروبي. لكن من المؤسف أن نظرته كانت صحيحة: فقد أصبحت الدول الأوروبية اليوم في خلاف.
من بين الدروس المهمة المستفادة من الكيفية التي تتعامل بها الدول مع النزاعات الداخلية أن الموقف المطلوب لا يستلزم تجاهل القضايا الخاصة بالتوزيع. والمجتمعات الناجحة لا تكف عن الخوض في مجادلات حول من سيستفيد ومن سيخسر من الضرائب، أو عمليات إعادة التوزيع.
وهذا هو الدرس الذي يتعين على أوروبا أن تتعلمه. ومن الأهمية بمكان أن تدرك أنها يجب عليها أن تتعايش مع النزاعات المتعلقة بالتوزيع، وأن توجد السبل لمعالجة هذه النزاعات. لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن تعمل على احتواء مجال هذه النزاعات، والقيام بكل هذا يتطلب الشجاعة، والبصيرة، والثقة ــ وهي السمات التي يندر المعروض منها حالياً إلى حد خطير.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي