لا تظلموا الحرباء

يمقت الناس الإنسان المتزلف المتلوّن حسبما تقتضيه مصلحته فيصفونه بالحرباء، ويتندرون على الإنسان الانطوائي الذي لا يخالط أحداً فيصفونه بالحرباء التي تراقب بعينيها ما يجري حولها دون أن تغادر مكانها أو تشارك في الأحداث.
لذلك ما إن يأتي اسم الحرباء إلا وتسبقها سمعتها السيئة آنفة الذكر كالتزلف والرياء والتلون والانطوائية.
ولأن السيدة الحرباء تحمّلت من إسقاطاتنا البشرية الشيء الكثير فقد آن الأوان أن ننصفها ونظهر الجانب الحسن فيها لعلنا إن ظلمناها في جانب أن نعدل في جانب آخر، وذلك حين نبدي من محاسن صفاتها ما ردمته أحكامنا القاسية.
فالتلوُّن الذي عاشته الحرباء دهوراً، وهو سبة في جبينها، هو في حقيقة الأمر يحدث بحسب وضعها الفيزيائي والفسيولوجي وليس لملاءمة بيئتها كما يسود الاعتقاد، كما أن الحرباء تغيّر لونها استجابة للتعرُّض للضوء ودرجة حرارة المحيط، إضافة إلى التعبير عن مزاجها، إذ باستطاعة المشاعر أن تؤدي إلى تغيير لون جلد الحرباء في بعض الأحيان، فليت بعض المحبطين يستفيدون من هذه الصفة الجميلة في الحرباء فيتكيفون مع ظروفهم مهما كانت درجة قسوتها ويرسمونها بألوان جميلة مهما كانت سرعة تغيرها ويقتنعون بأن التغيير يبدأ من داخلهم هم وليس من البيئة الخارجية، فالحرباء حين تتغير درجة الحرارة فلا تعد تناسبها فهي لا تحاول تغيير الواقع، بل تبدأ هي في تغيير جلدها ورسم معالم حياتها من جديد بألوان مغايرة.
ومن صفات الحرباء أنها تستدير بعينيها بدلا من رأسها، فهي تمتلك رؤية تصل إلى مدى 180 درجة أفقيا بحيث تتمكن من النظر يميناً ويساراً، كما تستطيع النظر بزاوية 90 درجة، أي تستطيع النظر للأعلى وللأسفل، لذلك ستجد الرزانة والثبات وتحديد الهدف ضمن قائمة جدولها، فهي لا ترتبك عند أقل اهتزاز ولا تنظر إلى الوراء أو تكثر من الالتفات لأنها تدرك أن ذلك سيعوقها عن تحقيق هدفها. ومن هنا فعلى كل إنسان طامح للنجاح أن يركز جيداً على أهدافه، لكن في الوقت نفسه عليه أن يكون حذراً وملماً بكل التفاصيل من حوله، وأن تكون الرؤية أمامه واضحة، وليس شرطاً أن يجعل من رأسه راداراً يدور طوال اليوم ليلتقط ذبذبات أعداء النجاح الذين يكيدون له، بل يكفيه أن يكون حذراً وفي الوقت نفسه مركزاً على أهدافه تماماً كما تفعل الحرباء.
ومن الصفات التي يعايرون الحرباء بها أنها انطوائية وتكتفي بمراقبة ما يدور حولها وتمقت الاجتماع مع غيرها، لذا يصفون الشخص الانطوائي بالحرباء، لكن هل تعلم عزيزي القارئ أن أكثر من نصف عباقرة العالم هم أشخاص انطوائيون، يطلق عليهم العلماء مصطلح "الانطوائيون الخارقون" كألبرت إينشتاين وإسحاق نيوتن اللذين كانا يطيلان الصمت ولا يتكلمان كثيراً، والانطوائية هي من أنماط الشخصية التي يجب علينا أن نحترم أصحابها ولا نتعدى على مشاعرهم إلى تلك الدرجة التي نعايرهم فيها بعزلتهم وانطوائيتهم.
قال أحد الشعراء في مدح العزلة:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي فدام لي الأنس ونما السرور
وأدبني الزمان فلا أبالـي هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت حيا أسار الخيل أم ركب الأمير
ثم تخيل عزيزي القارئ لو أن جميع الناس الذين تعرفهم يتصفون بالشخصية الاجتماعية فيجبرونك على ملازمتهم طوال الليل وسائر النهار ويشاركونك تفاصيل حياتك كافة أكنت ستتمنى أن تعيش يوماً واحداً بهدوء مثل الحرباء؟!
د. سلوى العضيدان

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي