ميثاق شرف الكتابة

تعتبر الكتابة الصحافية مهنة راقية؛ لأنها تراعي أدبيات المهنة وتخاطب شرائح المجتمع بما يتلاءم مع متطلبات الواقع، وبما يرى الكاتب أن الأفكار - التي يتضمنها مقاله - تضفي على المجتمع - بجميع طبقاته - مزيدا من الوعي الشرعي أو الاجتماعي أو القانوني أو السياسي.
والإشكال الكبير أن يتخلى الكاتب عن المعايير المهنية، ليتحول إلى مأجور يعبر عن أفكار غيره، سواء بمقابل مادي أو معنوي، والأدهى من ذلك أن تكون المهنة الكتابية تتعرض للذوات الشخصية في منعطفاتها الحياتية دون النقاش الموضوعي ومحاورة الأفكار المحركة للإمساك بالقلم، والباعث الحقيقي للكتابة. وغالبا ما تتخبط هذه الفئة من الناس، لأن أصدقاء اليوم أعداء الأمس، والعكس كذلك؛ لأن الدافع الحقيقي للكتابة تلبية رغبات شخصية للغير، وليست آراء ناضجة يريد الكاتب إيصالها من خلال معايير مهنية، ومثل هذا كثير من الممارسات التي تمارس في الحياة الاجتماعية اليوم، فإدخال العالم مسار الفتوى على بعض المرشحين في الانتخابات، وتحريم انتخاب شخص هو نوع من الممارسات اللاأخلاقية، تربي جميع شرائح المجتمع على لغة السب والإسقاط، وبدلا من أن يكون دور العالم الشرعي ترشيح من يراه دعما لسيادة الأمة والحرية الاجتماعية، ترى البعض – مع الأسف - يتدخل في مصادرة الآراء بلغة شرعية من أجل إنشاء ترشيحات مأجورة للشخص الذي يراه، وهذه من أخطر الآفات على المجتمع، التي بدأت تدخل في حياة العلم والكتابة.
إن من احترام الشعوب الترفع عن الأساليب المأجورة التي باتت معروفة وواضحة للعيان، ومن المخزي استغلال المنابر الإعلامية في الصحف أو وسائل الإعلام المرئية والمشاهدة لتصفية حسابات شخصية مرتزقة لمصلحة آخرين ليس للمجتمع والشرائح المحايدة أي مصلحة أو فائدة من هذا الأسلوب، والإشكال الكبير أن تتحول هذه لظاهرة تسيء للمهنة عموما في ظل تنامي وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت تعبر عن الآراء السائدة في أوساط المجتمع، وذلك لأن المنابر الإعلامية في وسائل التواصل الاجتماعي ليست محصورة أو حكرا على أحد، وهي أقرب للشفافية الاجتماعية من غيرها، بل أصبحت مقياسا مناسبا لقراءة الرأي الاجتماعي حول أي قضية أو رأي أو شخصية، بل أصبحت مجالا للرد على الكتاب الذين باعوا أنفسهم لغيرهم بعيدا عن الإنصاف والعدالة المطلوب الأخذ بها؛ بل القسم عليها قبل الدخول في مهنة الكتابة والقلم، لأن احترام القلم احترام لحق المجتمع في المنبر الإعلامي الذي يصعد عليه الكاتب سواء في صحيفة أو أي وسيلة إعلامية. وكما قيل العقول ثلاثة:
فالعقول الراقية تتكلم عن الأفكار، والعقول المتوسطة تتكلم عن الأحداث، والعقول الصغيرة تتكلم عن الأشخاص، وبين الأنواع الثلاثة فرق، لكن من لا يفرق بينها، فليس جديرا بأن يمسك بالقلم، ولا أن يمتطي على ظهر المهنة ليعبر عن آراء هي ليست له، إنما لغيره، لكن رضي بأن يكون ممرا لغيره في تصفية الحسابات.
وجاء في وثيقة عهد الشرف الصحافي الدولي الذي وضعته لجنة حرية الإعلام وأقره التقرير الاقتصادي والاجتماعي لهيئة الأمم المتحدة عام 1959 ما يلي: ''تتطلب المزاولة الشريفة للمهنة الصحافية الإخلاص للمصلحة العامة، لذلك يجب على الصحافيين أن يتجنبوا السعي وراء منفعتهم الشخصية، أو تأييد المصالح الخاصة المتعارضة مع المصلحة العامة أيا كانت الأسباب والدوافع، فالافتراء والتشهير المتعمد والتهم التي لا تستند إلى دليل وانتحال أقوال الغير كل ذلك يعد أخطاء مهنية خطيرة''.
لقد ظهرت أوائل تطبيقات مواثيق أخلاق المهنة منذ ما يزيد على 60 سنة، وانتشرت اليوم فيما يناهز أكثر من 60 دولة، ومن المسلم به أن تختلف أشكال وأبعاد ومحتويات المواثيق الأخلاقية من بلد إلى آخر، لكن ما يميزها على العموم صدورها في معظم الأحيان عن المهنيين أنفسهم، وتعد المملكة من ضمن هذه الدول، لذلك صدر قرار مجلس الوزراء المؤكد على مهنية العامل في نطاق الصحافة. تماشيا مع المواثيق الدولية، وكذا بسبب ما أصبحت تعرفه مهنة الصحافة والحقل الإعلامي بشكل عام من خروقات وتجاوزات لا أخلاقية، ينبغي التأكيد على أخلاق مهنة الصحافة، التي تستمد مقوماتها من مبادئ الشرع المطهر وأخلاقنا الاجتماعية وكذلك المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، التي تنص على حرية الرأي والتعبير، وفق النظام العام للبلد، وفق شروط تضمين الاستقلالية المهنية، وفي الوقت نفسه تحمي المصلحة العامة، بعيداً عن المعطيات غير الدقيقة، خصوصا التي من شأنها الاستخفاف بشرف الأشخاص أو المساس بالمؤسسات الخاصة، وأيضا المساس باحترام الحياة الخاصة للأشخاص وتفادي القذف والتجريح.
يقول الكاتب برونسو تيساربك الذي كان يكتب لباتريك هنري أدبه: ''مهنة القلم الأجير تقوم على منح أفكار للأغبياء ومنح أسلوب للعاجزين''. إن الكتابة مهنة عظيمة وتعبير صادق عما يجول في النفس من مشاعر سواء أكانت مشاعر فرح أم حزن أم غيرها من المشاعر الإنسانية، فالكتابة فن كالرسم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي