تطبيق الشريعة الإسلامية.. شعار أم حياة؟ (3 من 3)

مرّ معنا في المقال الماضي والذي قبله تحقيق المفهوم الشمولي للشريعة والتي لا تتجلى غاياتها ومقاصدها إلا عبر تطبيقها كمنظومة شاملة ومتكاملة في شتى معانيها ومضامينها الواسعة والشاملة، ومنها دائرة الإيمان بالله ودائرة الأخلاق الكريمة والحسنة ودائرة مساعدة الآخرين ودائرة دفع الأذى عن الآخرين، وليس تطبيق الشريعة ينحصر عبر اجتزاء الجانب العقابي منها وجعله رمزاً لتطبيق الشريعة في ظلِّ تغييب وتعطيل مقاصدها الكبرى، فالحدود والعقوبات لا يتم تطبيقها إلا ضمن تطبيق منظومة الشريعة الإسلامية الشاملة والمتكاملة، أي في سياق المبادئ والمقاصد والقيم الشرعية الكبرى التي تحققت وتجسّدت واقعياً.
وإن تم تطبيق (الحدود)، أو بعض الأحكام الجزئية السلوكية، في ظلّ تعطيل القواعد والمقاصد الشرعية الكبرى؛ فإن ذلك لا يعني على الإطلاق أن شريعة الله قد تحققت، بل ربما قد تشوهت وانحرفت وظهرت في صورة لا تحقق مراد الله من تطبيقها.
ولنأخذ هنا مثالاً واضحاً وهو: حدّ السرقة وقطع يد السارق، فبعد تحقق كل الشروط والأوصاف، فإن المقرر فقهياً عند المحققين أن السارق لا يطبّق عليه الحد إذا لم يتوافر الحدّ المعقول - وليس الحدّ الأدنى- من الحياة المعيشية الطيبة والكرامة الإنسانية. وهذا ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في عام المجاعة، حيث رأى أن شروط تطبيق حدّ السرقة ليست متوافرة، وأنه ليس من العدل أمام شدة الحاجة وظروف المجاعة أن يُحاسَبَ إنسانٌ اضطر لمدّ يده إلى مال غيره ليطعم نفسه أو أسرته. وحين سرق غلمانٌ لحاطب بن أبي بلتعة ناقةً لرجل من مزينة، فأتي بهم إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلم يقطع أيديهم، وقال لسيدهم: ''والله إني لأراك تستعملهم ثم تجيعهم وتسيء إليهم حتى لو وجدوا ما حرَّم الله عليهم لحلَّ لهم''. ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطي لبعيرك؟ قال: أربع مئة درهم، قال لسيِّدهم: قم، فاغرم لهم ثماني مئة درهم.
من هنا حدَّد الفقهاء الحقوق الأساسية المعيشية للإنسان في المجتمع المسلم وضربوا لها أمثلة والتي ينبغي أن تتوافر له قبل تطبيق الحدود.
وهذا الشرط الحقوقي الأساس هو ما يعرِّفه العلماء بـ (حدِّ الغنى)، ومفاده إقامة مجتمع مسلم متكامل في شتى نواحي الحياة: اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، بحيث يشعر الفرد في ظلّ مجتمعه الإسلامي بالأمن والاستقرار، ما يوفّر له حياة كريمة، فلا يضطر إلى السرقة بسبب الفقر، ولا يضطر إلى الزنا بسبب عدم مقدرته على الزواج، ولا تضطر المرأة إلى الانحراف كي تعول نفسها وأسرتها.
بل يذكر بعض الفقهاء أن من صور عدم تطبيق حدِّ الزنا على المرأة أن تكون (مكرهة)، علماً أن صور الإكراه والأسباب التي تلجئ الإنسان إلى اقتراف هذه المعصية ليست محصورة.
هذه هي المنظومة الشاملة المتكاملة للشريعة الإسلامية التي يتم فيها تطبيق الحدود. فلماذا إذن ينصرف جهد الداعين لتطبيق الشريعة إلى تنفيذ حديّ السرقة والزنا ولا يبذلون جهداً من أجل العدالة الاجتماعية وتوفير الحياة الكريمة للإنسان في المجتمع الإسلامي؟
وهل الشريعة جاءت لقطع الأيدي وفصل الرقاب وجلد الظهور.. أم جاءت لتحقيق العدالة بين الناس وتوفير الحياة الكريمة للإنسان؟
أيهما الأولى في مراتب الشريعة: أن ينصرف جهد البعض إلى المطالبة بتنفيذ الحدود والعقوبات في ظل الاستبداد والفساد والتخلف العلمي والتقني وانتشار الفقر والمرض والجريمة والعبث الأخلاقي والإخفاق الأخوي في المواطنة والسلام الاجتماعي والنفسي وغيرها، أم أن الأولى بنا - وفق مقاصد الشريعة - أن نخوض الإصلاح الشامل في شتى المجالات وبناء مجتمع قائم على العلم والمعرفة وانتشار العدالة الاجتماعية والأمن والصحة والرحمة وسيادة القانون وحفظ حقوق الإنسان أولاً؟
إن تعزيز المعاني الإصلاحية يطور المفاهيم الشرعية وفق المعاني الصحيحة للأدلة الشرعية والتي تكاد تضمر وتختفي في ظلِّ معركة شعار (تطبيق الشريعة).. سواءً من المطالبين أو من الممانعين في بعض الدول أو عند بعض المتابعين، وبهذه المفاهيم يتم التوازن الحياتي المنشود في قيام الدولة الحديثة التي تحفظ سائر الحقوق للفرد والمجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي