تصليح الذهب.. حرفة صاغها الأحسائيون وشوهتها العمالة والآلة
قديماً، يكدح الرجل ويصارع لسعات اللهيب ويُعمل فكره وينهك عينه حتى يخرج بقطعة ذهب فنية تسدلها الفتاة قلادة على جيدها، أو خاتما يلتف حول أصبعها أو أسورة تطوق رسغها مهنة، كان للرجل الأحسائي بصمته الحرفية التي أسهمت في تسيير عجلة سوق الذهب حتى انتهى إلى وضعه الحالي.
ومرّ أكثر من قرنين من الزمن على أول علاقة أقامتها أسر أحسائية مع الذهب والفضة وتوارثوها عن أجدادهم وأورثوها أحفادهم كصبغة سائدة في جيناتهم، لكن بعد أن احتلت الآلة أماكن أصابع صاغة الذهب، واختلست العمالة الوافدة صنعتهم، لم يتسنَ للبقية الباقية إلا أن تزاول "تصليح الذهب" كمهنة انحدرت عن سلالة احترفت صناعة الذهب، وانزوت لتصبح مجرد تراث قديم، أما الفضة فلاقترانها بالذهب فإنها "مرضت ولم تمت بعد" تحاول أن تتمسك بقشة النجاة على أيدي من حفظوها لعقود ولت، والآن ما عاد غير كبار السن من يجيد صياغتها بمهارة عالية بعد أن هرمت أصابعهم على طرق المعادن الملتهبة وتشكيلها حسبما اشتهت الأذواق.
"الاقتصادية" تجولت في بعض محال تصليح الذهب في مدينتي الهفوف والمبرز، حيث مقر تلك الأيادي المعتقة في الذهب والفضة.
سوق المبرز الذي يشهد للصائغ عبد اللطيف المهنا أكثر من 60 عاما من الاحتراف، انتهى به الحال ليمتهن "تصليح الذهب". استمعت "الاقتصادية" إلى حكاية مشواره الذهبي وعلاقته القديمة بهذه الحرفة، موضحا أن تجارة الذهب في الأحساء تعد رافدًا اقتصاديًا وتراثيًا معًا، وهو الوجه الآخر الذي أعطى الواحة أهمية اقتصادية تكاتفا مع "الذهب الأسود"، مشيرا إلى أن صياغة الذهب اشتهرت بها أسر بعينها معروفة في المجتمع، وأن عمر العلاقة التي زاوجت بين الأحساء والذهب تمتد لأكثر من قرنين من الزمن.
ويعلل عبد اللطيف ميل بعض الأهالي إلى ممارسة هذه التجارة بسبب شغف الأجداد وتعلقهم بالأحجار الكريمة والمعادن الثمينة، إضافة إلى مزاولة بعض الأجداد مهنة الغوص في الخليج العربي، وتحديدًا شاطئ العقير جسد الأحساء البحري الذي يستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، أما عن نفسه فيقول "فتحنا أعيننا على أيادي آبائنا الذين رأيناهم يصلحون قطع الذهب والفضة، ويصنعون بعضها زينة للنساء والأطفال.
ويجيد عبد اللطيف صناعة أشكالٍ متعددة ومتنوعة من الفضة بحكم خبرته الطويلة في تصليح المعدنين، وله زبائنه المعروفين الذين يقصدونه في دكانه الصغير والكبير لما يحتويه من أحجار كريمة وخواتم وسبح نفيسة، أخرج أثناء لقائنا به أشكالاً كثيرة صنعها من الفضة وجهزها لزبائنه حسب الرغبة، وبالهندسة التي تغريهم..
ويراوح سعر القلادة الفضية بين 800 و950 ريالاً، بينما يفضل العم عبد اللطيف الاحتفاظ بكميات من منتجاته إلى حين بيعها في المهرجانات الشعبية الكبيرة، كونها أكثر رواجًا وطلبًا على المشغولات اليدوية.
والحال يسير كذلك مع محمد المهنا، إذ مضت خمسة عقود على عمله كأحد الصاغة المشهورين. "الاقتصادية" التقت به وهو متربع في محله القديم متحدثا عن صداقته مع "تصليح الذهب" التي وصفها بأنها لا تزال "إمساكٌ بمعروف". وذكر المهنا أنه تعلم هذه الصنعة من أبيه الذي ورثها عن جده، مؤكدا أن كل ما يحتاج إليه من معدات لا يتعدى أنبوب نار موصل بأسطوانة الغاز ذات الحجم الصغير ومادة "الكوديوم" لتلحيم قطع الذهب المنفصلة عن بعضها، وقد تكون لـ "سوارة أو حلق أو قلادة" وغير ذلك، ولكنه في الوقت نفسه لا يفصل المهارة والخبرة عن دقة العمل، وإلا تحولت الأشكال الجميلة إلى معادن لا قيمة لها سوى أن تكسر وتعاد صناعتها من جديد.
وأكد محمد أنه لم يبق ممن أجادوا وعرفوا هذه المهنة سوى القليل جدا، يعدون على الأصابع - بحسب تعبيره - وكان للموت نصيب في تناقصهم ثم إن التقنية الحديثة والاعتماد على الآلات وارتفاع سعر الذهب والعمالة الوافدة، كل ذلك لم يساعد أبناءنا على تعلمها في الوقت الذي توجهوا فيه إلى الجامعات والوظائف المرموقة وهي تحتاج إلى صبر ودراية، مضيفا أنه ينتظر الزبون بالأيام، فالكل يحبذ بيع ذهبه المكسور دون أن يصلحه وسط ارتفاع سعر البيع والشراء، ولكن في المهرجانات الشعبية لنا حضور دائم ولا يمكن أن نغيب، وسط سؤال من الزائرين "ماذا يفعل هؤلاء، وما هي مهنتهم؟" هكذا ستكون مهنتنا غريبة عن الأجيال المقبلة.
ويتميز هؤلاء الصاغة خلال نظرة سريعة التمييز بين الذهب الأصلي من المغشوش عن طريق اللمس والنظر دون الاستعانة بآلات حديثة، وهي النظرة التي يشبهونها بينهم بـ "قصاص الأثر" ولكنها هذه المرة مع الذهب، حتى وإن تشابه الأصلي منه مع المغشوش، فالعلاقة بين الصانع والمصنوع أصبحت حميمة جدا ولا يمكن أن تنفك أبدًا.