مصطلحات قمرية

مصطلحات قمرية

تحفل البحوث الخاصة بإثبات الشهور القمرية ببعض المصطلحات التي تحتاج لمراجعة وإعادة بحث، وسأكتفي في هذا المقال بعرض نموذجين لمصطلح فلكي وآخر فقهي، مع النظر في دقتهما وصحة إطلاقهما: المصطلح الأول: مصطلح (ولادة القمر) الفلكي: (ولادة القمر) مُصطلحٌ فلكيٌ يُطلقه الفلكيون على (اقتران) الشمس بالقمر. بينما يطلقه العديد من الفقهاء والباحثين على (الإهلال) بعد الاقتران. وبسبب الفارق بين الإطلاقين يحدث الكثير من الخطأ والاختلاف بين أقوال بعض أهل العلم، وما يبنون عليه آراءهم من حسابات الفلكيين، وبين أقوال الفلكيين وحساباتهم. مما يستدعي استمرار تأكيد الفلكيين على مقصودهم بولادة القمر، والتفريق بينه وبين الإهلال، وأن ولادة القمر لا تعني بداية الشهر القمري. فأي الإطلاقين أصح: إطلاق الفلكيين؟ أم إطلاق الفقهاء والباحثين؟ مصطلح الولادة في اللغة: الولادة في اللغة تطلق على: الإنتاج، والوضع، تقول العرب: تَولَّدَ الشَّيء عن غيره: نشأ عنه. كما تُطلق على المعاني المجازية، مثل: ولادة الدولة، أو ولادة الحضارة، وغير ذلك: بمعنى النشوء والخروج للعلن. حقيقة الاقتران: إنَّ ظاهرة اقتران الشمس والقمر والأرض تحدث في الفترة الواقعة بين آخر شهر وبداية شهر جديد، حيث يدخل القمر في مرحلة الاختفاء وعدم الرؤية، ثم يحدث الاقتران، ثم الإهلال. ومرحلة الاختفاء هذه يُطلق عليها في اللغة العربية (المُحاق) و(الاستسرار): 1_ فأما المحاق: فهو مأخوذ من المَحق: وهو النقصان والذهاب. ويُطلق المُحَاقُ والمِحاقُ: على آخر الشهر إذا امَّحق الهلال فلم يُر. 3_ وأما الاستسرار: فتُطلق سَرَر الشهر: على آخر ليلة منه، وكذلك سِراره وسَراره. وهو مشتق من قول: استسر القمر، أي خفي ليلة السِّرار، فربما كان ليلة وربما كان ليلتين. فمرحلة (المحاق) و(الاستسرار) تكون في آخر الشهر، وفيها يحدث (الاقتران). فالاقتران ليس هو بداية الشهر القمري، بل هو مرحلة ما قبل بداية الشهر، أما بداية الشهر فتكون بـ (الإهلال). حقيقة مصطلح ولادة القمر: بناءً على ما سبق: فإنَّ مصطلح (الولادة) بمعانيه اللغوية المتعدِّدة أصدق على مرحلة (الإهلال) وليس مجرد (الاقتران). بالإضافة إلى أنَّ ما في اللغة العربية من مصطلحي (المحاق) و(الاستسرار) أدق في التعبير عن هذه المرحلة، وهي مصطلحات أصيلة مُعبِّرة، تُغني عن هذا المصطلح الحديث المُشكل. ضوابط تعدد المصطلحات: حين قال العلماء قديمًا (لا مشاحة في الاصطلاح) أي لا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أحدًا أن يستعمل اصطلاحًا آخر يوضِّحه ويُبيِّن مقصوده منه، فإنَّهم وضعوا شروطًا لذلك، من أهمها: ألا يحتوي هذا المصطلح على خطأ علمي أو لغوي، وألا يترتب على ذلك مفسدة ما. وهذه الشروط لا تنطبق على مصطلح (ولادة القمر) بإطلاقه الفلكي؛ لأنَّ إطلاق هذا المصطلح على مرحلة (المحاق) غير دقيقة لغويًا ولا علميًا، بالإضافة إلى أنَّ المستخدَم الشائع في لفظ الولادة أنَّه يدل على البدء، وهو المتبادر إلى الذهن في الاستخدامات الحقيقية والمجازية، وهي معانٍ منطبقة تمامًا على مرحلة (الإهلال). وبالتالي: فإنَّ علماء الفلك مدعوون لتصحيح هذا المصطلح، وإطلاق لفظ (ولادة القمر) على (الإهلال)، أو الاستغناء عنه والاكتفاء بالمصطلحات الأخرى القديمة والحديثة (المحاق) و(الاستسرار) و(الاقتران). ولعل أصل المشكلة: أنَّ هذا المصطلح مترجم عن اللغة الإنجليزية (New moon)، والذي يعنون به مرحلة المحاق. المصطلح الثاني: مصطلح (موجب صيام شهر رمضان) الفقهي: والمقصود به: السبب المؤدي لوجوب صيام شهر رمضان. فلكلِّ عبادة من العبادات مجموعةٌ من الشروط التي ينبغي توافرها حتى تكون صحيحة مقبولة. وقد نصَّ الفقهاء على شرط دخول الوقت في عبادات الصلاة، والزكاة، والحج، وكل ما يحتاج إلى وقت لأدائه. وصيام رمضان من العبادات المؤقتة بوقت مُعيَّن، ووقتها شهر رمضان، قال تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ) [البقرة: 185]، وقال صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ) متفق عليه. لكنَّ عبارات الفقهاء لم تكن واضحةً في النص على أنَّ (دخول الوقت) شرط لصحة الصوم، بل اختلطت بمسألة أخرى عند بحثهم لمسألة (سبب الصوم) أو (مُوجب صيام شهر رمضان)، وهذا استعراض مختصر لأبرز أقوالهم: فقهاء الحنفية: وعباراتهم كانت أقرب العبارات في توضيح هذه المسألة: جاء في المبسوط: "بيان السبب الذي جعله الشرع موجبًا وهو شهود الشهر". وفي بدائع الصنائع: "أما صوم رمضان: فوقته شهر رمضان، لا يجوز في غيره..". إلا أنَّهم لم يجعلوا من شروط صحة الصوم دخول الوقت. أما فقهاء المالكية: فقد علِّقوا دخول الشهر على رؤية الهلال أو تمام شعبان ثلاثين يومًا: قال في الذخيرة: "في أسباب الوجوب والطرق: أما الأسبابُ فستةٌ ... وظهور الهلال". وفي الشرح الصغير: "ويجب صوم رمضان ...بكمالِ شعبان، أو برؤيةِ عدلين". أما الشافعية فقد اختلفت عباراتهم في ذلك: فقد جاء في الوسيط: "فرؤية الهلال سبب الوجوب". وكان في المجموع أكثر وضوحًا فقال: "شروط صحة الصوم أربعة: النقاء عن الحيض والنفاس، والإسلام، والتمييز، والوقت القابل للصوم"، إلا أنَّه قال بعد ذلك في الشرح: "ولا يجب صوم رمضان إلا برؤية الهلال، فإن غُمَّ....". وكذلك جعل الحنابلة موجِب صيام شهر رمضان إتمام شعبان أو رؤية الهلال: قال في الفروع: "ويجب صومه برؤية هلاله، فإن لم يُرَ مع الصحو ليلة الثلاثين من شعبان أكملوه ثلاثين". وجاء في الروض المربع: "يجب صوم رمضان برؤية هلاله". وعند تتبُّع المؤلفات الفقهية الحديثة _وبخاصة الموسوعات_ التي اهتمَّت بالتَّبويب، والتَّرتيب، يظهر استمرار الحديث عن سبب أو موجب صيام شهر رمضان، كما كان في المؤلفات السابقة، دون التَّفريق بين مسائل: موجب صيام رمضان، وإثبات دخول شهر رمضان، وكيفية إثبات دخول شهر رمضان. مع أنَّ جزءًا من كلام الفقهاء انصبَّ على التوقيت اليومي لصيام رمضان: من حيث الإمساك عند طلوع الفجر، والإفطار عند غروب الشمس، لكنَّهم لم يوضِّحوا ما يتعلَّق بالتوقيت الشهري. وعند النظر في الأحاديث التي تُوضِّح ما يثبت به شهر رمضان، ومنها: ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ _رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ_ عن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ) متفق عليه، يتَّضح من الحديث أمران: 1. بيان وقت صيام رمضان، وهو شهر رمضان. 2. بيان كيفية العلم ببداية الشهر، وأنَّ ذلك يتم بأحد دلالتين: رؤية هلال شهر رمضان، فإن لم يُرَ الهلالُ بسبب الغيم أو الغبارِ أو ما يمنع من رؤيته: فتكون معرفةُ الشهرِ بإكمال شهر شعبان ثلاثين يومًا؛ وذلك لأنَّ طول الشهر القمري لا يزيدُ عن ثلاثين، فبإكمال العِدَّة يحصل التأكدُ حينئذٍ من نهايةِ شهرِ شعبان، وبدايةِ شهر رمضان. وبهذا يتَّضح أنَّ القول بأنَّ سبب أو موجب صيام شهر رمضان هو رؤية الهلال، أو إتمام شهر شعبان ثلاثون يومًا: غيرُ دقيق؛ إذ ينبغي التَّفريق بين أمرين: 1_ موجب أو سبب أو شرط صحة صيام شهر رمضان: وهو دخول الوقت، ووقت الصيام المفروض هو شهر رمضان. 2_ كيفية إثبات دخول شهر رمضان: وقد ورد في الحديث أنه رؤية الهلال، أو إكمال شهر شعبان. وينبني على ذلك مسألتان: المسألة الأولى: رؤية الهلال دلالةٌ على بداية الشهر: فالشارع إنَّما علَّق الصوم على رؤية الهلال لا لذات الهلال، بل لأنَّه دلالةٌ على بدء الشهر القمري، مثله في ذلك مثل إثبات الشهر بإكمال شعبان ثلاثين يومًا. فرؤية الهلال ليستَ عبادةً مطلوبةً لذاتها كما هو الحال مع العديد من شروط العبادات الأخرى كالوضوء أو الأذان للصلاة، أو الإحرام للعمرة أو الحج، بل هي مجرَّد وسيلة لإثبات دخول الشهر القمري. كما أنَّ إثبات ترائي الهلال لإثبات الشهر يختلف عن ترائي الهلال لقول الدعاء الوارد في ذلك: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ) رواه أبو داود، وأحمد. والفرق بينهما: أن ترائي الهلال لإثبات الشهر ليس عبادة في ذاته، لذا يمكن إثبات الشهر القمري بغير رؤية الهلال، كإثباته بإكمال عدة شعبان، فالصيام متوقف على ثبوت الشهر برؤية أو غيرها. أما ترائي الهلال من أجل الدعاء: فهو عبادة بحدِّ ذاته؛ لذا فإنَّه لا يُشرع قول هذا الذكر عند إثبات الشهر بإتمام شهر شعبان ثلاثين يومًا، فالذكر متوقف على رؤية الهلال. المسألة الثانية: إثبات دخول الشهر بإكمال العدد أصلٌ بذاته وليس بديلاً عن الرؤية: فقد دلَّت الأحاديث النبوية أنَّ إثباتَ دخول الشهور القمرية يكون بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا إن لم يُرَ الهلال، وهذا الإكمالُ هو أصلٌ بذاته في طريقة إثبات الشهر القمري، وليس بديلاً عن الرؤية، ويشهدُ لذلك ما يلي: 1. أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالرؤيةِ بعد انقضاء الثلاثين يومًا، بل أمر بالصومِ بعده مباشرة، فقال: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ). 2. من أقوال الصحابة: حديث كُريب وفيه قول عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ" ثم قال: هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم. 3. أنَّ الشهر القمريَ لا ينقصُ عن تسعةٍ وعشرين يومًا ولا يزيدُ على ثلاثين يومًا: فإن رُئي الهلالُ فهو دلالةٌ قطعيةٌ على انتهاء الشهر القمري، وبدء شهرٍ قمريٍ جديد. وإن لم يُر الهلال وأكملنا عدة شعبان ثلاثين يومًا: فنكون قد انتهينا قطعًا من شهر شعبان، وبدءنا بشهر رمضان؛ لأن الشهر القمري لا يزيد عن ثلاثين يومًا، ومن ثم لا حاجة لترائي الهلال. وهذه الثقة بانتهاء الشهر وبداية شهر آخر دون الحاجة لرؤية الهلال لا تكون إلا بضبط جميع شهور السنة، ولا يكون ضبط جميع شهور السنة إلا بنظامٍ شاملٍ دقيق لإثبات الشهور القمرية ومعرفتها، وهو نظام التقويم القمري.
إنشرها

أضف تعليق