حاجة الفلكي للعلم الشرعي

حاجة الفلكي للعلم الشرعي

يجب على العالم الفلكي أن يراعي الأمور الشرعية من ناحيتين: من حيث كونه شخصًا مسلمًا كبقية المسلمين، ومن حيث اشتغاله بعلم الفلك، وذلك من خلال النقاط التالية: ## المسألة الأولى: وسيلته دراسة علم الفلك وغايته: فالفلكي المسلم ينبغي أن يضبط اشتغاله في علم الفلك بالضوابط الشرعية العامة التي ينضبط بها المسلم في حياته العلمية والعملية، كوسائل البحث، وكيفية التعامل مع منتجات هذا العلم، وتسخيره فيما ينفع الناس ويوافق الشرع؛ لأنه ينطلق في نظرته للحياة: من العبودية والخضوع لجميع ما في هذا الكون لله تعالى. فالغاية من علم الفلك - مثلا - قد تكون غاية عملية فيما يتعلق بالصناعات الحديثة، أو تسهيل أمور الحياة، أو غاية علمية كالاكتشافات المتعلقة بخلق الكون ونشأة الكواكب وتركيبها، وغير ذلك كثير. فكلا الغايتين يجب أن تكونا مضبوطتين بالشرع، فلا يُسخر الفلكي علمه أو معرفته في أمور ممنوعة شرعًا، أو يتوصل بعلمه إلى أمور تناقض الشرع، كبعض النظريات التي تُصادم الشرع في أصل الكون وخلقه وتسييره، وهي أمور لا تجد صدى عند علماء المسلمين الفلكيين على كل حال. بل إن علماء الفلك المسلمين كانوا السباقين لتخليص الفلك مما اختلط به من خرافات الأقوام السابقين، مثل علاقة الكواكب بالتأثير على حياة الناس موتًا أو حياةً أو غير ذلك، أو التفسيرات الخرافية للحوادث الفلكية، والتنجيم، وغيرها. وقد أمر الله تعالى بالتفكر في مخلوقاته والاستدلال بها على وحدانيته وقدرته وربوبيته للكون في الكثير من آيات القرآن الكريم؛ لذا فإنَّ العالم الفلكي المسلم من أولى الناس في الدخول في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]. ## المسألة الثانية: إثبات دخول شهر رمضان أو خروجه، وتحديد وقت الصيام أو العيد: فعلى الرغم من أنَّ أساس هذه المسائل فلكي وهو ما يتعلق بحركة الشمس والقمر، إلا أن ما يترتب عليها من مسائل الصيام أو الإفطار أو الحج هي مسائل شرعية بحتة لا يكون الحديث فيها إلا للمختصين بالفتوى. فيكون عمل علماء الفلك في هذه المسائل: توضيح أمور بدايات الشهور القمرية وما يتعلق بها - كالشهادة على رؤية الهلال - من ناحية فلكية، والحرص على تسلسل السير في مناقشة أمورها بطريقة علمية صحيحة، فإذا كان لهم ملحوظات على شهادة الشهود، أو صحة الترائي، أو غيرها: فلا بد أن يكون اعتراضهم مقتصرًا عليها، دون الحديث عن صحة الصيام، أو الإفطار، أو القضاء، ونحوها. ## المسألة الثالثة: صحة التقويم: سبق بيان أنَّ الغاية من علم الأهلة: اصطناعُ تقويم شرعي للمسلمين، فإذا كان التقويم يقوم على حساباتٍ فلكيةٍ دقيقة كما يقال، فما حاجة الفلكيين للعلم الشرعي؟ ولماذا يحصل الخلاف بين الفلكيين أنفسهم مع أنَّ حساباتهم واحدة ودقيقة؟. الحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها أولاً: أنَّ الحسابات الفلكية من اقتران الشمس بالقمر، وحدوث الإهلال، ومواعيد شروق الكواكب وغروبها، وغيرها: في غاية الدقة، وهي محل إجماعٍ بين جميع علماء الفلك في جميع البلدان، ولا تختلف أبدًا، وهذه الدقة والانضباط تعود إلى بديع خلق الله تعالى وسننه في الكون، لا إلى اختراع الفلكيين أو ادعاءاتهم. فالسؤال: إذًا لماذا يحدث الخلاف بين الفلكيين أنفسهم في تعيين بدايات الشهور القمرية في بعض السنوات، فضلاً عن اختلافهم مع علماء الشرع في ذلك؟. والإجابة: إن ذلك يعود إلى (منهجية) استخدام هذه المعلومات والحسابات، وسيتضح ذلك في الفقرات التالية: ## 1 - إثبات دخول الشهر وعلاقته ببداية اليوم الشرعي: يبدأ اليوم الشرعي بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس فقد ابتدأ يوم جديد، فالليل يسبق النهار؛ لذا فإن العديد من الأحكام الشرعية تبدأ أو تنتهي بغروب الشمس: كالبدء بصلاة التراويح من الليلة التي تسبق الصيام، والتوقف عن أدائها في الليلة التي تسبق يوم الفطر، ووجوب صدقة الفطر بغياب شمس آخر يوم من رمضان، والتوقف عن التكبير المُقيَّد بعد الصلوات المفروضة أيام التشريق عند غروب شمس اليوم الثالث لانتهاء أيام التشريق بغروب الشمس، وغير ذلك. ويُعرف هذا التقويم باسم التقويم الغروبي. أما التقويم الزوالي فهو التقويم الذي يقوم على أساس أنَّ اليوم يبدأ من بلوغ الشمس منتصف النهار وقت الزَّوال، إلى زوال الشمس من اليوم التالي، فالنَّهار فيه يسبق الليل، وهو التَّوقيت الذي أخذت به التقاويم الغربية الحديثة. كما أنَّ هناك تقويمًا آخر وهو أقل انتشارًا مما سبق، ويقوم على أساس أنَّ اليوم يبدأ بطلوع الشمس إلى طلوع الشمس من اليوم التالي، فالنهار يسبق الليل. ## تطبيق أنواع التقاويم على مسألة إثبات الشهور القمرية: إذا حدث اقتران الشمس بالقمر قبل غروب الشمس، ثم هلَّ الهلال: فيمكن ترائي الهلال وإثبات دخول الشهر بدايةً من اليوم التالي مباشرة، بناءً على التقويم الغروبي الشرعي. أما إذا حصل الاقتران والإهلال بعد غروب الشمس: فلا يُعدُّ النهار التالي بداية الصوم بناءً على التقويم الغروبي؛ لأن الليل جزء من اليوم، فكأن الاقتران وتولد الهلال حصل بعد بداية اليوم، لكنه يعتبر أول يوم من الشهر بناءً على التقويم الزوالي، وهذا مخالف للشرع. وكذلك إن وقع الاقتران ثم الإهلال قبل الفجر: فسيعتبر أن الشهر يبدأ بطلوع الفجر عند من يأخذ بهذا النوع من التقويم، بينما لا يعتبر ذلك بدايةً شرعية لبداية الشهر في التقويمين الغروبي أو الزوالي. ## 2 - إثبات دخول الشهر وعلاقته بالتوقيت الشرعي: كما أنَّ هناك من نادى بتطبيق شروط بداية الشهر إذا حدث الاقتران والإهلال قبل منتصف الليل عند الساعة (12)، وهذه الضوابط غير صحيحة شرعًا: أ - لأنَّ اليوم الشرعي يبدأ من غروب الشمس كما سبق. ب - كما أنَّ منتصف الليل شرعًا يكون في منتصف الوقت بين أذاني المغرب والفجر، وهو لا يتقيَّد بالساعة (12) بل يتغير عنها تبعًا لاختلاف طول الليل والنهار خلال فصول السنة. ## 3 - إثبات دخول بداية الشهر وعلاقته بالمكان: يبدأ اليوم من شرقي الأرض، ويتدرج باتجاه الغرب، لكن ذهبت بعض التقاويم إلى ربط التقويم بنقطة التقويم العالمي (غرينتش)، سواء من ناحية المكان، أو من ناحية الوقت، وفي هذا مخالفة شرعية: أ - فنقطة غرينتش لا تعلُّق لها بالعبادات مكاناً أو زمانًا، وإنما هي نقطة توقيت عالمية لمقارنة الأوقات قبلها أو بعدها. ب - كما أنها تقع في منتصف الأرض تقريبًا، بعد أن يكون اليوم قد دخل على جزء كبيرٍ من الأرض، فيكون الشهر قد دخل فعليًا في مناطق شرق الأرض. ج - بالإضافة إلى أنَّ تقويم غرينتش يقوم على أساس التقويم الزوالي، بينما التقويم الشرعي يقوم على أساس التقويم الغروبي. وللتوضيح بمثال: فإنَّ تقويم أم القرى قد مرَّ في وضعه بمراحل اعتمد فيها ضوابط متعددة لحساب بداية الشهور القمرية، ومن هذه المراحل: اعتماد شرط أن يحدث الإهلال قبل مُنتصف الليل في غرينتش وذلك في الفترة الممتدة من عام 1993هـ إلى 1419هـ. فبالإضافة إلى عدم شرعية هذه الشروط فإنها كانت غير صحيحة علميًا، فقد كانت نسبة الخطأ في بداية الشهور القمرية كالتالي: (65 %) لشهر رمضان، و( 65 %) لشهر شوال، و(10 %) لشهر ذي الحجة، مما استدعى إدخال العديد من التعديلات حسب ما توصل إليه علماء الفلك بالاتفاق مع علماء الشرع من شروط وضوابط شرعية لبداية الشهور القمرية، والتي من أهمها: 1 - أن يحدث الاقتران بين الشمس والقمر قبل غروب الشمس. 2 - أن يحدث الإهلال بعد الاقتران قبل غروب الشمس. 3 - أن تغرب الشمس قبل الهلال. وهي الضوابط التي تعمل بها معظم التقاويم الهجرية في العالم. فيظهر مما سبق: أنَّ اختلاف بعض الدول في بدايات بعض الشهور القمرية يرجع في بعض الأحيان إلى أخذها بمناهج مختلفة في عمل التقاويم، مما يؤدي إلى اختلاف النتائج المترتبة عليها. وأنَّ الحديث عن (الأهلة) أمرٌ مُشتركٌ بين الفقهاء والفلكيين، ولا يصحُّ لطرفٍ أن يستقلَّ به دون طرفٍ آخر فكلُّ طرفٍ عنده من العلم والاختصاص ما ليس عند الآخر، ولا تنضبط أمور التقويم والعبادات إلا بالاتفاق فيما بينهم، كما هو الحال في اللجان الاقتصادية والجنائية والطبية التي تنعقد لبحث المسائل الشرعية المتعلقة بها.
إنشرها

أضف تعليق