الناتو .. هل يمكن تعميم التجربة الليبية إذا ما توافرت شروط الأزمة؟
بدأ حلف الناتو منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين في السعي إلى إعادة هيكلة تركيبته لمواجهة عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بتوسيعه من خلال ضم أعضاء جدد من دول شرق ووسط أوروبا التي كانت في وقت من الأوقات عضوا في حلف وارسو الذي شكل الحلف المقابل لحلف الناتو خلال فترة الحرب الباردة. والهدف من التوسع هو زيادة قدرته، والتحول من كيان يهدف إلى حماية أمن أوروبا الغربية إلى كيان قادر على التدخل لحماية مصالح دوله الأعضاء تحت اسم حفظ السلام والأمن على المستوى العالمي.
يبدو أن أسهم حلف شمال الأطلسي قد ارتفعت بعد سقوط نظام القذافي ومساعدة قوات الحلف ثوار حركة 17 شباط (فبراير) على إحراز التقدم في مختلف المناطق، وخصوصا دخول العاصمة الليبية طرابلس، الذي أعلن دخول ليبيا مرحلة ما بعد القذافي، ليتردد الحديث عن دور حلف الناتو الجديد في التدخل لحلّ النزاعات الدولية بشكل خاص وفي العلاقات الدولية بشكل عام، في وقت تدور فيه التساؤلات حول تعميم النموذج الليبي، ومستقبل ليبيا والتحديات التي تواجهها لإعادة بناء الدولة الديمقراطية.
وإن كان ليس مفيدا إنكار أو تضخيم دور الخارج في مساعدة الثورة الليبية، حيث لعبت الطلعات الجوية لطائرات حلف الناتو، التي وصل عددها إلى أكثر سبعة آلاف طلعة، دورا رئيسا في ضرب قواعد ودفاعات القوات الموالية للقذافي، وبالتالي تقدم الثوار الليبيين، إلا أن الدور الأساسي يعود للثوار على الأرض، الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الخلاص من استبداد حكم القذافي، والتطلع إلى ليبيا جديدة، تتسع لجميع الليبيين.
التدخل الإنساني
المعروف أن التدخل العسكري لقوات حلف الناتو لم يأت خارج الشرعية الدولية والعربية، ولم يتخذ شكل تدخل عسكري مباشر على الأرض الليبية، بل جاء بتفويض من مجلس الأمن الدولي، ومن باب مبدأ التدخل الإنساني، الذي استجلب نقاشات عديدة حول شرعيته وطبيعته وجدواه، وأثار جدلا حادا في الأوساط السياسية العربية والدولية.
وكان لافتا القرار الذي أصدرته الجامعة العربية، وطالبت فيه المجتمع الدولي بتأمين الحماية للمدنيين في ليبيا؛ نظرا إلى لجوء القذافي إلى مواجهة التظاهرات الاحتجاجية بالعنف المفرط واستدام مختلف أساليب القمع الفظيع، على الرغم من أنها بدأت بشكل سلمي، الأمر الذي أفسح المجال لتدويل الأزمة الليبية، فأصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1970 بإجماع أعضائه الخمس عشرة، القاضي بفرض عقوبات صارمة وقاسية على نظام القذافي، ويطلب من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باتخاذ التدابير الفورية اللازمة "لمنع التوريد المباشر أو غير المباشر للأسلحة والمواد ذات الصلة بجميع أنواعها، بما في ذلك الأسلحة والذخيرة والمركبات والمعدات العسكرية إلى ليبيا أو بيعها لها أو نقلها إليها. ثم أصدر مجلس الأمن الدولي في الـ17 من آذار (مارس) من هذا العام قرارا حمل الرقم 1973، شدّد على ضرورة حماية السكان المدنيين من الهجمات والأعمال التي يشنها نظام القذافي ضد الشعب الليبي، وترتقي إلى مرتبة جرائم ضد الإنسانية، وتشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين. واستند في ذلك إلى مبدأ حماية وتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين وضمان مرور إمدادات المساعدة الإنسانية بسرعة ومن دون عراقيل. وطالب الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، بشكل خاص، بأن تتعاون مع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لتنفيذ التدابير اللازمة لحماية السكان المدنيين المعرضين لخطر الهجمات، مثل فرض منطقة حظر الطيران على جميع الرحلات الجوية في المجال الجوي الليبي مع توفير المساعدة اللازمة لذلك، بما فيها الموافقة على مختلف الطلعات الجوية الضرورية لتأمين الإجراءات العملية للمراقبة من أجل تنفيذ القرار الدولي.
وتجاوز القرار الدولي مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، على حساب تعزيز الحقوق الأساسية للسكان المدنيين، وتفعيل شرعية قاعدة التدخل الإنساني في حالة عدم التزام الأنظمة الحاكمة بالوفاء بالتزاماتها وتعهداتها الدولية وفقا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وعدم اتخاذها التدابير اللازمة لحماية السكان المدنيين وتلبية احتياجاتهم الأساسية، سواء في وقت السلم، أم خلال النزاعات الداخلية أو غير الدولية.
وتشكل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتنفيذ القرار 1973، ثم ما لبثت الإدارة الأمريكية أن أوكلت المهمة إلى حلف الناتو، الذي كان مستعدا لتنفيذها، فقاد العمليات العسكرية في ليبيا منذ الـ19 من آذار (مارس) الماضي وحتى الآن، وخاصة تلك المتعلقة بالحصارين الجوي والبحري، وراح يضرب مواقع ودفاعات القوات الموالية للقذافي، فشكل ذلك تطورا مهما في دور الحلف في منطقة الشرق الأوسط.
وقد أثار تدخل الناتو نقاشا حول شرعية التدخل السياسي الدولي، وحول مبدأ ضرورة التدخل الإنساني في حالة تعرض شعب من الشعوب أو جزء منه لأعمال إبادة، سواء من طرف خارجي أو من الدولة نفسها، التي قد تواجه ثورات أو انتفاضات شعبية ضدها؛ مما قد يدفعها إلى مواجهتها باستخدام أساليب عنف قد ترقى إلى مرتبة إبادة الجنس البشري، بوصفها إحدى الجرائم ضد الإنسانية التي يعاقب عليها القانون الدولي العام. ولم ينحصر الجدل في الحالة الليبية ما بين قبول التدخل الخارجي وما يستدعيه من أشكال جديدة للاستعمار وبين التسليم بواقع القمع والقتل الذي يمارس النظام المستبد، ذلك أن المسألة لا تتوقف عند الجانب الأخلاقي والتسليم بواقع الحال ونفي البدائل الممكنة.
الدور الجديد
لا شك في أن نجاح الناتو في مساعدة ثوار ليبيا على الخلاص من القذافي، قد يكسب الحلف دورا جديدا في النزاعات والعلاقات الدولية، خاصة وأنه كان يتجه إلى التحول من تنظيم عسكري محض، كانت تتمحور مهمته الأساسية في الدفاع عن دول أوروبا الغربية ومنطقة الأطلسي ضد أي هجوم محتمل من طرف الاتحاد السوفييتي السابق، إلى قوة عسكرية - سياسية عالمية، مهمتها الجديدة تحقيق وتأمين مصالح دول الحلف في مختلف بقاع العالم؛ لذلك فإن هذا التحول فرض على دول الحف تحديات جديدة، إذ لم تعد مهمته منحصرة في حماية الدول الغربية، بل تمددت إلى البلقان ثم أفغانستان والشرق الأوسط، ومعها مختلف المناطق التي عرفت حالات من عدم الاستقرار والصراعات والحروب.
وكان حلف الناتو قد تشكل في إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، بهدف الوقوف بوجه، ما كان يسمى في الغرب، الخطر الشيوعي في ذلك الوقت. ومع زوال ذلك الخطر بانهيار الاتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الاشتراكية، زالت الحجة التي أنشئ من أجلها حلف الناتو، إلا أن الحلف بقي، بل وتوسع كثيرا، وأخذ يتمدد من خلال ضم دول أوروبية جديدة، خصوصا مع قدوم إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، حيث كان عدد الدول الأعضاء فيه ست عشرة دولة قبل سقوط جدار برلين، ووصل عددها في أيامنا هذه إلى تسعٍ وعشرين دولة.
وبدأ حلف الناتو منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين في السعي إلى إعادة هيكلة تركيبته لمواجهة عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بتوسيعه من خلال ضم أعضاء جدد من دول شرق ووسط أوروبا التي كانت في وقت من الأوقات عضوا في حلف وارسو الذي شكل الحلف المقابل لحلف الناتو خلال فترة الحرب الباردة. والهدف من التوسع هو زيادة قدرته، والتحول من كيان يهدف إلى حماية أمن أوروبا الغربية إلى كيان قادر على التدخل لحماية مصالح دوله الأعضاء تحت اسم حفظ السلام والأمن على المستوى العالمي. وكان أبرز مؤشر على الدور الجديد للحلف هو التدخل الحرب الدائرة حتى يومنا هذا في أفغانستان، حيث يتولى قيادة أول عملية عسكرية له خارج نطاق القارة الأوروبية.
وعلى المستوى السياسي، أنشأت دول حلف الناتو مجلس تعاون شمال الأطلسي في عام 1991، ثم تطور هذا المجلس في عام 1997 إلى مجلس الشراكة الأوروبي - الأطلسي، وأصبحت مهمته تنظيم وتوزيع المسؤوليات والتبعات بين أوروبا ومنطقة الأطلسي، بهدف ضبط احتمالات الصراعات والنزاعات داخلها، واحتوائها من خلال تطوير آليات للتعاون في مختلف المستويات الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. وفي نفس المستوى السياسي لحلف الناتو جرى إدخال برنامج الشراكة من أجل السلام، والمجلس المشترك الدائم للناتو وروسيا، وميثاق الناتو - أوكرانيا. إضافة إلى قيام الناتو بإجراء بعض التعديلات على هيكل مؤسسته العسكرية، مثل إلغاء القيادة الرئيسة في منطقة القنال الإنجليزي، ودمجها بالقيادة الفرعية لتحالف شمال غربي أوروبا التابعة للقيادة الرئيسة في القارة الأوروبية. وفي قمة روما للحلف التي عقدت في عام 1991 جرى تحديد الفهم الاستراتيجي الجديد للناتو وتعيين مهمّته في إطار "المحافظة على التوازن الاستراتيجي في أوروبا". وبفعل حرب البوسنة والهرسك تعزّزت فكرة إيجاد دور تدخلي للناتو، حيث تم الاتّفاق عليها في عام 1995 فيما عُرف بـ"اتفاق دايتون"، وأصبح الحلف بموجبه ذراعا لتدخل الأمم المتحدة.
وقد أتاحت الأمم المتحدة لحلف الناتو أن يقوم بدوره الجديد في ليبيا، وذلك على الرغم من عدم التطابق ما بين أهداف وخطط الدول الأعضاء فيه، التي تمحورت حول الإطاحة بنظام القذافي، وبين مبدأ واستراتيجية حماية المدنيين، المستندة إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومع ذلك سيتباهى حلف الناتو بإنجازه المهمة، والتأكيد على قدرته على إدارة التحديات، وتعزيز دوره باعتباره مؤسسة عالمية لها دور جديد في النزاعات والعلاقات الدولية.
النموذج الليبي
اليوم، وبعد نجاح الناتو في مساعدة الثوار الليبيين على الإطاحة بنظام معمر القذافي، فإن دوره لن يمرّ مرور الكرام، بل سيستدعي نقاشات وإرهاصات فكرية وسياسية، وستحاول دول الحلف إيجاد ممكنات سياسية للدور الجديد للحلف في النزاعات والعلاقات الدولية. لكن بالمقابل، إذا تحول التدخل في ليبيا إلى مستويات أكبر، فإن أشكالا من الرفض السياسي والاجتماعي ستنشأ، خاصة لدى الجماعات المتضررة من الوضع الجديد. كما أن دولا عديدة في العالم عارضت وما زالت تعارض دور الحلف في ليبيا وسواها.
وليس حلف الناتو جمعية خيرية للبرّ والإحسان، بل يضم دولا قوية ولها مصالح حيوية واستراتيجية في المنطقة، وهناك فاتورة ستدفع لدول الحلف؛ لذلك لا ينبغي التنكر لدور حلف الناتو في مساندة الثورة، وحماية المدنيين من عمليات القتل التي مارسها نظام القذافي. وهناك تكلفة كبيرة قد صرفت، تتحمل ليبيا قسطا كبيرا منها. كما أن هنالك مصالح دولية في ليبيا، تتركز بالأساس في موارد الطاقة الليبية، والاستحواذ على مناطق النفوذ في الشمال الإفريقي، إلى جانب الثروات والميزات الجيوسياسية الليبية الأخرى.
والملاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها حلف الناتو، لم تقرر التدخل في ليبيا إلا عندما توافرت شروط عديدة، أهمها استعداد الثوار الليبيين للقتال على الأرض والتضحية بأرواحهم من أجل التغيير والخلاص من حكم القذافي، إضافة إلى توافر غطاء شرعي عربي، تجسد في طلب الجامعة العربية التدخل لحماية المدنيين الليبيين، وغطاء شرعي دولي تمثل في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، والأهم هو تقاسم التكاليف والأعباء بين ليبيا ودول الحلف. وبالتالي اختلف النموذج الليبي تماما عن النموذج العراقي الذي كان التدخل فيه منفردا بشكل كبير وأفضى إلى غزو واحتلال العراق وخراب دولته.
وعلى الرغم من موافقة العرب على التدخل الأجنبي في ليبيا، إلا أن النموذج الليبي لا ينسحب إلى باقي الانتفاضات والثورات العربية، بمعنى أن دور الناتو الجديد لن يعمم على حالات أخرى إلا إذا توافرت الشروط اللازمة، وأهمها أن يلجأ النظام الاستبدادي المتغطرس إلى ارتكاب مجازر أو شن حرب إبادة ضد شعبه. ويبقى أن أمام ليبيا الجديدة مهاما كثيرة للإنجاز، والمأمول هو أن تقدم مثالا مختلفا عن المرحلة السابقة وبما يحقق لجميع أبناء ليبيا سبل العيش الكريم والحريات والمساواة، ويقطع من ظلام المرحلة السابقة.