المتغيرات السياسية التركية والحركات الاحتجاجية

> أين تقف تركيا الآن؟ وهل تمكن الإسلام السياسي من حسم الصراع نهائياً مع المؤسسة العسكرية لمصلحته؟. وما الأسباب التي دفعت بأردوغان لتغيير مواقفه السياسية والاستراتيجية، وتبني مواقف تندفع بقوة إلى اليمين وتتماهى مع تدخل حلف الناتو في ليبيا؟ ولماذا اختار زعزعة علاقته مع النظام السوري، بعد الحركة الاحتجاجية التي عمت سورية في الأشهر الأخيرة؟ هل ستشهد الأيام القادمة انتقالاً حادا في السياسة التركية نحو الغرب، ومغادرة لاستراتيجية التوجه نحو العمق الاستراتيجي في الشرق والجنوب؟ أسئلة وعدنا في الحديث السابق بمناقشتها ومحاولة الإجابة عليها.
ينبغي في هذا السياق التأكيد على الطبيعة البراغماتية لحزب العدالة والتنمية الذي يقوده رجب الطيب أردوغان. فهذا الحزب، رغم أنه تبنى مواقف تتسم بالراديكالية، تجاه الغرب والكيان الصهيوني، لكنه لم يصل مع أي منهما لدرجة القطيعة. كان هدف أردوغان هو أن يضيف أرصدة جديدة إلى علاقة تركيا بالخارج، وليس إضعافها في مكان، وتقويتها في مكان آخر. وبالنسبة لحلف الناتو فإن أعضاءه يحرصون على استمرار تركيا في الحلف، لأن ذلك يبقيها ضمن القوس الغربي المطوق للإمبراطورية الروسية.
الأمر نفسه ينسحب على الكيان الصهيوني، فحكومة نتنياهو لا ترى مبررا كافيا، لقطع الوصل مع الحكومة التركية. ولا تعتبر إسناد الحكومة التركية لقوافل الحياة المتجهة إلى قطاع غزة أكثر من محاولة لتعزيز الحضور التركي في البلدان العربية. ويعتقد كثير من القادة الصهاينة، أن تركيا يمكن أن تكون في المستقبل وسيطا مع السوريين نتيجة للرصيد الشخصي الذي يمتلكه أردوغان مع النظام السوري، ومع الرئيس بشار الأسد بالذات، حتى ما قبل اندلاع الحركات الاحتجاجية الأخيرة.
خلاصة القول، إن جميع الغرماء، أتراكا وغربا وناتو وصهاينة، قد اتفقوا على أنه ليس من مصلحتهم تردي العلاقة الاستراتيجية والسياسية فيما بينهم. وحرصوا على استمرار واقع الحال. وبالنسبة للأتراك فإنهم ضمنوا بسياستهم الجديدة، علاقة متميزة مع الغرب ومع الشرق والجنوب في آن معا. وحين يتعلق الأمر برجب طيب أردوغان شخصيا، فإنه بسياسته الجديدة ضمن عدة مواقع، فإضافة إلى ما ذكرنا، ضمن رضا العسكر، الذين يخشون من اختلال المعادلة التركية في العلاقة مع الغرب، التي سادت منذ عهد أتاتورك، واستمرت في حلقات متصلة، بقليل من الإشكالات. كما ضمن حضورا تاريخيا قويا، باعتباره الزعيم التركي، الذي توجه بحسم نحو العرب والمسلمين، وناصر بقوة القضية الفلسطينية.
وبالنسبة للتماهي مع السياسة الغربية، والقبول بتدخلات حلف الناتو بالشؤون الداخلية الذي برز أخيرا، بشكل خاص في بلدان الثورات العربية. فهناك جملة من الحقائق التي تجعل الموقف التركي مفهوما، وإن لم يكن مقبولا لكثير من المثقفين العرب.
أولى هذه الحقائق، أن الحكومة الحالية تنظر بعدم رضى لمعارضتها استخدام القوات الأمريكية أراضي تركيا للعبور من الجنوب إلى الشمال العراقي. لقد التزمت الحكومة التركية آنذاك بقرار البرلمان التركي، وحالت دون استخدام الأمريكيين لتركيا كمنطقة عبور للعراق. لكن الاحتلال الأمريكي للعراق قد تحقق وأسقط نظام الرئيس صدام حسين. وكانت القوة الإقليمية الرابحة من احتلال العراق هي إيران، التي نسقت بالكامل مع الاحتلال الأمريكي، وعاد عملاؤها إلى العراق، على ظهور دبابات المحتل، ليتسلموا أهم المناصب في الحكومات الانتقالية التي عينها المندوب السامي الأمريكي، بول برايمر. لقد حقق الإيرانيون مكاسب عدة في العراق، جراء تنسقيهم مع المحتل الأمريكي، لعل أهمها تأجيل المواجهة الأمريكية مع إيران حول الملف الإيراني، بسبب تعقيدات الملف العراقي، وتداخل المنافع بين إيران والأمريكيين في أرض السواد. يضاف إلى ذلك، السرقات الإيرانية المعلنة لنفط البصرة، وقدرة الإيرانيين على التحكم في جميع مفاصل الدولة، حديثة التكوين، من مؤسسة الجيش، إلى المرافق الأمنية، وحتى أصغر وحدة في مؤسسات الدولة.
في هذا السياق، لا يرغب الأتراك في تكرار تجربتهم مع العراق، في مكان آخر، وبشكل خاص حين يكون البلد المستهدف هو سورية، البلد الذي يشبه العراق من وجوه كثيرة، لعل أهمها وقوعها على حدود تركيا الجنوبية، ولوحتها الدينية والأثنية الفسيفسائية، ووجود نظام شمولي يقود المجتمع والسلطة في البلاد.
الحقيقة الأخرى، أن الأتراك يدركون طبيعة المشاريع الغربية، والتصميم على تنفيذها. وما دامت هذه المشاريع ستتحقق برضاهم أو بغير رضاهم، فالنظرة البراغماتية التي توصف من قبل أنصار الحزب بالواقعية، والتي طبعت مسار حزب العدالة والتنمية، منذ بداية تأسيسه، وكانت مبرر وجوده بعد سقوط حكومة نجم الدين أربكان تحتم على حكومة أردوغان التنسيق الكامل مع الغرب، في تحديد مستقبل الثورات العربية.
إن الأتراك يأملون أن يكون وضعهم في سورية بعد إسقاط النظام السوري، على يد الغرب شبيه بوضع الإيرانيين في العراق. إن ذلك سيسهم في توسيع دائرة مجالهم الحيوي في المنطقة ليقترب من مواقع تصدير النفط في الوطن العربي. ويعتقدون أن ذلك سيسهم في تحسين ميزان المدفوعات لديهم، والتبادل التجاري، وتصدير المنتجات التركية، لتصل حدود اليمن جنوبا، وإلى طرابلس - ليبيا غربا. وهي فرصة ثمينة لن يفوتها الأتراك مهما كانت المبررات والأسباب، المرئية حتى الآن.
حقيقة أخرى، لا تقل وجاهة عما ذكرناه، هي أن الرؤية للثورات العربية وسيرورتها، ليست موضع إجماع من كل العرب. فالانقسام العربي والإسلامي تجاه هذه الثورات، من قبل الحكومات العربية والإسلامية والنخب الثقافية في هذه البلدان، يكاد يكون متكافئا بين المؤيدين والمعارضين. والتدخلات الغربية في البلدان العربية، تأتي الآن بمنطق مغاير كليا عن الأهداف التي احتل باسمها العراق. فالهدف المعلن هنا، بغض النظر عن الدوافع الحقيقية هو حماية المدنيين العزل والدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية. وذلك رغم مرارة تجربة الأمة العربية مع التدخلات الغربية، يبدو هدفا إنسانيا نبيلا، يضيف تدخل الأتراك، من وجهة نظرهم عناصر جديدة على ترشيده، والتبشير به.
والنتيجة أن التدخل التركي في شؤون سورية، بخلاف التدخل الإيراني في شؤون العراق، ينظر إليه من قطاع واسع من الجمهور، بأنه خطوة عملية وإيجابية لمساعدة الشعب السوري، خاصة بعد حوادث جسر الشغور ومعرة النعمان، وعبور ما يقرب من عشرة آلاف لاجئ سوري إلى تركيا، وفتح مخيمات من قبل حكومة أردوغان لهؤلاء اللاجئين ملبية حاجاتهم الأساسية من المأوى والغداء.
يضاف إلى ذلك أن ما يدعى ربيع الثورات العربية، هو في حقيقته ربيع لحركة الإخوان المسلمين، الذي يعتبر حزب العدالة والتنمية هو أحد تفرعاتها. إذا فنصرة الإخوان المسلمين في سورية، من قبل أوردغان، هي نصرة لإخوة في الإسلام والجهاد. ولم يصدر عن الإخوان المسلمين في أي من الأقطار العربية، ما يشي بخلاف حوله.
وحتى حركة حماس التي شهدت انقساما بين الداخل والخارج، حول الموقف الذي ينبغي تبنيه تجاه أحداث سورية، ما لبثت أن التقت على شعار إسقاط النظام في سورية. لقد جاء الموقف الجديد بعد تلويح الإخوان المسلمين في مصر بأن القاهرة يمكن أن تكون مقرا بديلا عن دمشق لزعيم حركة حماس، خالد مشعل، بما يعنى أن الضرر الذي سيلحق بـ "حماس" جراء سقوط نظام دمشق ليس بالحجم الذي تخيلته قيادة حركة حماس في الخارج في بداية انطلاق الحركة الاحتجاجية.
ويبقى أن نؤكد أن الأتراك قد وضعوا في حسبانهم أنهم لن يخسروا أي شيء في حالة بقاء النظام واستمراره في الحكم. فهم يملكون اليد العليا، إن في السيطرة على مياه الفرات، أو من حيث تحكمهم بخط الترانسيت المتجه إلى البلدان العربية، جنوبا عبر الأراضي السورية، أو في حاجة الحكم السوري إلى وسيط يثق بنزاهته في حالة عودة المفاوضات السورية مع الإسرائيليين. سيعود الأتراك وبالقوة ذاتها إلى الساحة السورية، وسيجري الحديث مجددا عن علاقة استراتيجية بين البلدين.
الأيام حبلى بالكثير، ولن ننتظر طويلا حتى ينجلي الموقف وتتضح صورة اتجاه البوصلة. وليس في مقدورنا سوى الدعاء والرجاء بأن يكون مستقبل شعب سورية أكثر كرامة وبهجة ورخاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي