الوظائف والبنية في الاقتصاد العالمي

إن الاقتصاد العالمي يقف الآن عند مفترق طرق مع اكتساب الأسواق الناشئة الرئيسية (والبلدان النامية على نطاق أوسع) للمزيد من الأهمية على المستوى الشامل، فيما يتصل باستقرار الاقتصاد الكلي والمالي، وفي ظل تأثير هذه الأسواق على الاقتصاد في بلدان أخرى، بما في ذلك الدول المتقدمة.
ولنتأمل على سبيل المثال ما حدث على مدى السنوات الـ 20 الماضية في الولايات المتحدة. لقد حققت بعض أقسام القطاع القابل للتداول (التمويل، والتأمين، وتصميم أنظمة الكمبيوتر) نمواً في القيمة المضافة وتشغيل العمالة، في حين حققت أقسام أخرى (الإلكترونيات والسيارات) نمواً في القيمة المضافة، ولكنها انحدرت فيما يتصل بتشغيل العمالة، مع انتقال وظائف القيمة المضافة الأدنى إلى الخارج. وكانت المحصلة النهائية قدراً لا يُذكَر من النمو في مجال تشغيل العمالة ففي القطاع القابل للتداول من الاقتصاد.
والواقع أن اقتصاد الولايات المتحدة لم يكن يعاني مشكلة البطالة بشكل واضح قبل اندلاع الأزمة في عام 2008، وذلك لأن القطاع غير القابل للتداول كان قادراً على استيعاب القسم الأعظم من القوة العاملة المتوسعة. والآن تبدو وتيرة النمو هذه في تشغيل العمالة غير قابلة للاستمرار. وتمثل الحكومة وقطاع الرعاية الصحية وحدهما ما يقرب من 40 في المائة من صافي الزيادة في تشغيل العمالة في الاقتصاد بالكامل بداية من عام 1990 إلى عام 2008. وتشير نقاط الضعف المالية، وإعادة ضبط القيم العقارية، وانخفاض معدلات الاستهلاك، إلى احتمالات نشوء البطالة البنيوية في الأمد البعيد.
ومن بين الردود في هذا السياق التأكيد على أن نتائج السوق من شأنها دوماً أن تجعل الجميع أفضل حالاً في الأمد البعيد. ولكن هذا الرأي لا تدعمه نظرية أو تجربة. في الولايات المتحدة على سبيل المثال، ورغم أن العديد من السلع والخدمات أقل تكلفة مما لو كانت البلاد معزولة عن الاقتصاد العالمي، فلا نستطيع أن نفترض أن هذا التوفير في التكاليف يعوض بالضرورة عن تضاؤل فرص العمل. وقد يقايض الناس السلع الأرخص بتأكيدات مضمونها أن الدولة قادرة على توفير مجموعة واسعة من خيارات العمل المنتجة المجزية، الآن وفي المستقبل.
وثمة استجابة ثانية تتلخص في الإقرار بالتأثيرات المترتبة على التوزيع، على أن نتقبلها بوصفها ثمناً للكفاءة والانفتاح. وطبقاً لهذا الرأي فإن البديل ـــ عدم وجود نظام سوق يتسم بالكفاءة ويعمل في بيئة من الاقتصاد العالمي المفتوح نسبيا ـــ قد يكون أسوأ إلى حد كبير.
وربما تكون هناك خيارات حقيقية بين مستويات الدخل والتوزيع من ناحية، وببين مجموعة من فرص العمل من ناحية أخرى. ومن غير المنطقي أو الواقعي أن نلخص التحدي في مقاومة أو التغلب على قوى السوق العاتية العاملة في الاقتصاد العالمي. بل إن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية التوصل إلى الشكل الأمثل لتحويل الحوافز على الهامش من أجل تحسين التأثيرات المترتبة على التوزيع.
وهناك عِدة أبعاد حيث يمكن اتخاذ بعض الإجراءات. فعلى جانب العرض من الاقتصاد، تستطيع الدولة أن تستثمر أو تشارك في الاستثمار مع القطاع الخاص في رأس المال المادي (البنية الأساسية)، والمؤسسات، ورأس المال البشري، والمعارف والتكنولوجيا التي يقوم عليها الاقتصاد. وهذا الاستثمارات عموماً من شأنها أن تعمل (في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء) على زيادة العائد على الاستثمار الخاص، والسماح للأخير بالتوسع في الحجم والنطاق، فضلاً عن رفع معدلات تشغيل العمالة. ومن العوامل المساعدة أيضاً في هذا السياق إصلاح النظام الضريبي لصالح الاستثمار وإزالة التعقيدات وأسباب عدم الكفاءة.
إن وظائف القيمة العالية والأجور الأعلى، وخاصة في القطاع القابل للتداول، تتطلب عادة أشخاصاً من ذوي التعليم العالي. ولا شك أن المزيد من التعليم الأفضل لا يضمن في حد ذاته أن العدد المتوافر من مثل هذه الوظائف قابل للتوسع بشكل كبير، وذلك نظراً لنطاق القطاع القابل للتداول. ولكن المزيد من الدرجات العلمية والهندسية من شأنه أن يعزز من نمو فرص العمل ـــ جنباً إلى جنب مع بعض استثمارات القطاع العام في التكنولوجيات الواعدة ـــ بل وقد يعمل أيضاً على توسيع مجال القطاع القابل للتداول.
ورغم ذلك فإن الحوافز الخاصة والأهداف الاجتماعية لا تتوافق تماماً في كل الأحوال. ولكنها لا تتعارض أيضاً في كل الأحوال. ذلك أن الشركات المتعددة الجنسيات قادرة على الوصول إلى الإمدادات العالمية الوفيرة من العمالة المنخفضة التكاليف نسبياً في فئات متعددة من المهارات، وهذا يعني أن العائد لا يُذكَر بالنسبة للاستثمارات التي تعمل على زيادة الإنتاجية العمالية في القطاعات القابلة للتداول في البلدان ذات الدخول المرتفعة. ولكن الاستثمارات المشتركة الموجهة على النحو الصحيح في القطاع الخاص قادرة على تحويل هذه الحوافز من خلال خفض تكاليف الاستثمار الخاص في التكنولوجيا.
وعلى نحو مماثل، تعمل الاستثمارات في البنية الأساسية بشكل مباشر على إضافة العمالة وتحسين القدرة التنافسية والكفاءة في نطاق واسع من القطاعات. ونظراً لصعوبة الموقف المالي الحالي، فلابد أيضاً من استكشاف المشاريع المشتركة الخاصة في هذا السياق أيضا، والبناء على مجموعة كبيرة من التجارب والخبرات فيما يتصل بالاستثمار في البنية الأساسية المعززة للنمو في البلدان النامية.
والواقع أن تملك عناصر استعادة القدرة التنافسية الصناعية أمر بالغ الصعوبة. فبمجرد غياب العمال المهرة، وبرامج التدريب، والمؤسسات الفنية في صناعات محددة، يصبح من الصعب للغاية استعادة مثل هذه العناصر. لذا، ينبغي للسياسات الطويلة الأجل أن تشتمل على تقييم لتطور القدرة التنافسية وإمكانية تشغيل العمالة في مختلف القطاعات وعلى مستويات رأس المال البشري كافة، في ظل هدف يتلخص في تشجيع نتائج السوق التي تفضي في النهاية إلى تحقيق أهداف اجتماعية.
إن أغلب بلدان العالم تستثمر الموارد العامة في الأصول القادرة على زيادة رأسمالها البشري وقاعدتها التكنولوجية، وبالتالي قدرتها التنافسية. ولابد وأن يستمر هذا. وهو شكل حميد من أشكال المنافسة العالمية التي تعمل على زيادة الإنتاجية في كل مكان، شريطة أن تظل أسواق السلع والخدمات النهائية والوسيطة مفتوحة.
وإذا كان للنظام العالمي المفتوح نسبياً أن يستمر في البقاء في عالم حيث أصبحت الدول القومية صاحبة القرار الأساسية، فلابد أن يُدار هذا النظام ويوجه ليس فقط لتحقيق الكفاءة والاستقرار (على الرغم من أهمية هذه الغاية)، بل وأيضاً لضمان توزيع فوائده بالتساوي بين البلدان وداخل كل بلد.
وإذا تعافت سوق العمالة بقوة في البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة، إلى جانب النمو، فإن استمرار توفير الدعم السياسي للاقتصاد العالمي المفتوح سيصبح أسهل إلى حد كبير. ولكن في ضوء الميول المعاكسة في القطاع القابل للتداول واستنفاد القطاع غير القابل للتداول كمصدر لخلق فرص العمل، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تظل البطالة مرتفعة على نحو عنيد، على الرغم من العودة إلى النمو الطبيعي. وفي هذه الحالة فإن السياسات ستنقسم وتستقطب، وسيزداد الميل نحو ''الحلول'' القائمة على نزعة الحماية، وهو ما من شأنه أن يعرض انفتاح الاقتصاد العالمي للخطر.
إنها ليست بالفكرة الجيدة أن نفترض أن الأسواق ستحل مشاكلها المرتبطة بالتوزيع من تلقاء ذاتها؛ ذلك أن تطور البنية وتوزيع الدخل من الأمور التي ترجع إلى حد كبير إلى حوافز السوق. والواقع أن كل البلدان، المتقدمة والناشئة، لا بد وأن تسارع إلى معالجة القضايا المرتبطة بالشمولية والتوزيع والمساواة كجزء من جوهر استراتيجياتها فيما يتصل بالنمو والتنمية.
ذات يوم قال الراحل بول صامويلسون إن كل قضية خيرة تستحق بعضاً من عدم الكفاءة. وفي اعتقادي أنه كان مصيباً على المستويات: الأخلاقي والعملي والسياسي.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي