وجه الشبه بين «بيت الحكمة» وجامعة الملك سعود

يتقاطع التاريخ مع الجغرافيا. فيتداخل زمن بعبق النسيم القادم من دجلة والفرات مع زمن محمول على صبا نجد.
تتقاطع الجغرافيا مع التاريخ، فتتشابك - رغم السنين – العواصم.. بغداد المأمون مع رياض أبي متعب..
في كل مشهد مهما اختلف الزمان أو تناءى المكان، يظل البشر قاسما مشتركا.. فهم بما حباهم الله من عقول وموارد يطوعون الطبيعة ويعيدون استلهام التاريخ وتقريب الجغرافيا. وإذا قرنوا العمل بالعزيمة قادوا موجة التغيير، وشكلوا ذلك الحراك الذي يتناقل عبر الأجيال متجاوزا كل الحدود.. إنه حراك التغيير الذي لا يأتي من ثكنات العسكر بل من معاقل العلم..
فمن أين جاء الحراك الأول؟
من هنا من بيت الحكمة، تلك الحكمة التي أدرك العرب أنها ضالة المؤمن، فأنشؤوا لها بيتا. كانت "بيت الحكمة" جامعة متكاملة المرافق، فقد كانت مكانا للتعلم والدراسة، مشتملة على مركز للأبحاث، ومركز للترجمة، ومستشفى جامعي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة ومساكن لأعضاء هيئة التدريس والطلاب ومطعم.
كانت "بيت الحكمة" - وهي أول جامعة عرفها البشر منذ أكثر من ألف سنة مضت وأسست في عام 840م أي قبل 19 عاما من إنشاء جامعة القرويين في مدينة فاس بالمغرب - مؤسسة علمية لها ميزانية ضخمة ويعمل بها العلماء والأطباء والمترجمون، يساندهم طاقم إداري من الكتبة والـُنساخ.
كانت "بيت الحكمة" المؤسسة العلمية المتكفلة بنقل المعرفة عن طريق الترجمة، حيث جلبت الكتب من اليونان وفارس والهند، في مجالات شتى كالفلسفة والمنطق والفلك والطب والرياضيات.
وكان العرب ينقلون المعرفة في خطوة لاستيعاب الحضارة الإنسانية من حولهم، كان لها بعد ذلك أثر في توجههم إلى إنتاج المعرفة.
كتب التاريخ تؤكد لنا أن "بيت الحكمة" بلغت مجدها في عهد المأمون، الذي كان يدعم العلماء والمترجمين، ويزن إنتاجهم الفكري من الكتب ذهبا.

أين وصل ذلك الحراك؟
وصل إلى زمن ومكان مختلفين.. لا يهم اختلافهما، فأنا ممن يرى أن التاريخ والجغرافيا وجهان لعملة واحدة. حتى لو اختلف مدرسو "التاريخ" عن مدرسي "الجغرافيا"، فالزمان لا يفصل عن مكانه، والمكان لا يتحدد إلا بزمان.

أين وصل ذلك الحراك؟
إلى هنا.. إلى جامعة الملك سعود..
فما أشبه الليلة بالبارحة؟ وما أشبه بيت الحكمة بجامعة الملك سعود. فالجامعة تتماثل مع بيت الحكمة في الدور (نقل المعرفة وإنتاجها) وفي منظومة المرافق (مراكز بحث وترجمة ومكتبات).
إن الحراك الذي تشهده جامعة الملك سعود منذ أكثر من أربع سنوات، قد حولها من بحيرة راكدة إلى خلية نحل هادرة، من جامعة تتخرج منها أفواج من الطلاب والطالبات "فرحين" بشهاداتهم قبل أن يصطدموا ببوابة سوق العمل المقفلة إلى جامعة تفرخ روادا في العلم والأعمال. تحولت من جامعة تركز على الكم إلى جامعة تركز على الكيف.
إني أرى في ملامح جامعة الملك سعود تقاطيع "بيت الحكمة"، فهل يجري في عروق الجامعة شيء من دم بيت الحكمة أو جيناتها؟
لقد مارست الجامعة أدوارا تتجاوز الدور التقليدي الذي كنا نعرفه، وأخذت على عاتقها تطبيق خطط التنمية السعودية (الثامنة والتاسعة)، وانطلقت من تلك الخطط لتنقل المملكة من الاقتصاد النفطي إلى الاقتصاد المعرفي. أليس هذا أمرا يحسب لجامعة الملك سعود؟ بل لقد اقترن اسم مديرها الدكتور عبد الله العثمان بالاقتصاد المعرفي، حتى أصبح مدير الجامعة حاملا لواء الاقتصاد المعرفي في السعودية.
لقد قطعت الجامعة بكل قطاعاتها ومرافقها على نفسها عهدا أن تنتج المعرفة اللازمة للمساهمة في نقلنا إلى الاقتصاد المعرفي بدءا من إنشاء معهد الملك عبد الله لتقنية النانو، ومعهد الأمير سلطان للتقنيات المتقدمة، ومركز الأمير نايف للأبحاث الصحية، ومركز الأمير سلمان لريادة الأعمال، ومشروع وادي الرياض للتقنية، وحاضنة الرياض للتقنية، مرورا ببرامج كراسي البحث، ومركز الابتكارات، وصندوق التنمية والاستثمار المعرفي (تمكين)، وبرنامج حقوق الملكية الفكرية وترخيص التقنية، إلى استقطاب علماء نوبل والعلماء المتميزين في مجالات حيوية يتطلبها الاقتصاد المعرفي.
ما أشبه الجامعة السعودية بـ "بيت الحكمة" العباسية، ما أشبه اللحظات التي يزن فيها الخليفة المأمون كتب العلماء ذهبا، باللحظات التي تكافئ فيها الجامعة مبدعيها بالحوافز المالية والتمويل عن طريق صندوق "تمكين" وغيره.
فخلال هذا العام، وزنت الجامعة إنتاج منسوبيها ومنسوباتها المبدعين ذهبا، حينما كرمت مبدعيها من أعضاء هيئة التدريس بأكثر من 13 مليون ريال ضمن قائمة مدير الجامعة للتميز البحثي للعام 1431/1432هـ (2010م)، وقائمة مدير الجامعة لأفضل خمس كليات (وفق معدل إنتاج أعضاء هيئة التدريس)، وقائمة مدير الجامعة لأفضل خمسة أقسام أكاديمية، وقائمة النشر العلمي بمجلتي "نيتشر" و"سيانس"، وقائمة مدير الجامعة للاختراع، وقائمة مدير الجامعة للكراسي البحثية، وقائمة مدير الجامعة لأفضل عشرة باحثين، وقائمة مدير الجامعة لأفضل عشر باحثات.
ماذا عن بقية جامعاتنا العزيزة؟ أليست معنية بنقل وإنتاج المعرفة؟ أليست معنية بالاقتصاد المعرفي؟ أليست معنية بخطط التنمية أم أن خطط التنمية مقصور تنفيذها على جامعة الملك سعود وحدها؟ ماذا عن بقية مؤسساتنا الحكومية والخاصة هل هناك من بادر أو اهتم بالاقتصاد المعرفي؟.. أكاد أسمع أصواتا هنا وهناك.. لكنها خافتة.

خاطرة أخيرة
خلال السنوات الأربع الماضية انتقلت جامعة الملك سعود من محطة إلى محطة، وقفزت كما ونوعا، وحركت البحيرة الراكدة، وتحولت من عهد السكون إلى عهد الحراك.. إلى عهد يستشرف المستقبل..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي