عملاق أمريكا .. يموت في ألمانيا
''الأرقام الفلكية'' أرقام ضخمة لا نراها إلا في مقاييس علم الفلك، لكن ما يشهده العالم اليوم من عملاق التجزئة الأمريكية (وول مارت walmart) قد يقلب هذه المقاييس ويجعلنا نرى هذه الأرقام الفلكية تتحقق على كوكب وول مارت.
كانت بداية وول مارت في عام 1962، حيث تم افتتاح أول متاجرها على يد مؤسسها ''سام والتون'' وأصبحت بعد ذلك أكبر سلسلة متاجر خاصة في العالم، حيث تصدرت ''وول - مارت'' لائحة مجلة ''فورتشن'' Fortune الجديدة لأكبر 500 شركة في العالم عام 2010 بعائدات زادت عن مبلغ 408 مليارات دولار، وتمتلك الشركة حاليا أكثر من 6200 متجر حول العالم، منها 3800 في الولايات المتحدة والبقية متفرقة بين 14 دولة.
حصدت وول مارت نجاحا منقطع النظير في الولايات المتحدة، حيث ينفق الأمريكيون نحو 36 مليون دولار في الساعة الواحدة فقط من كل يوم تسوق في محال وول مارت، وهذا يعني أنها تجني 20.928 دولارا من الأرباح كل دقيقة، ويعود هذا النجاح إلى سياسة ''الأسعار المخفضة يوميا'' التي تتبناها الشركة، حيث تصل هوامش ربحها في معظم الأحيان إلى أقل من نسبة 3.5 في المائة؛ مما يسمح لها حتما بالتغلب على المنافسين، بل واكتساح أسواق الجملة.
محال وول مارت هي ببساطة امتداد للظاهرة التجارية الأمريكية المتنامية والمتمثلة في ''الميل نحو إنتاج الجملة، بدلا من التخصص، والمنافسة القائمة على السعر بدلا من الجودة''. ويتفق الكثير من المحللين على أن السبب الرئيس لهذا النجاح الهائل، وهذه الأرقام الأسطورية، هو فكرة بيع البضائع بأسعار أقل من أسعار السوق، والتركيز على هذا المبدأ في الحملات الدعائية والتسويقية، وقد نجحت الشركة من خلال هذه الاستراتيجية أن تبني قاعدة هائلة من العملاء، معظمهم من أصحاب الدخول المنخفض نسبيا.
هذا النجاح الباهر أغرى العملاق الأمريكي للدخول في الأسواق الدولية، لكن هذا النجاح سرعان ما انقلب إلى فشل ذريع عندما قررت وول مارت الدخول إلى ألمانيا في كانون الأول (ديسمبر) عام 1997، حيث رأى مديرو الشركة التوسع في ألمانيا باعتبارها سوقا رائجة وأكبر سوق في أوروبا في ذلك الحين، حيث تحوي هذه السوق 82 مليون نسمة، وهو أكثر بكثير مما كانت عليه بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، وكذلك كان معدل دخل الفرد في ألمانيا جيد، إضافة إلى أن حجم الإنفاق الاستهلاكي قوي جدا، ناهيك عن وجود بنية تحتية جيدة للنقل، ونظرا إلى كل هذه العوامل الممتازة رأت ''وول مارت'' بأن التوسع في السوق الألمانية والسيطرة عليها فكرة جيدة ومضمونة النجاح، إلا أن الذي حدث عكس ذلك تماما فلم تنجح ''وول مارت'' في ألمانيا وكلفها هذا تراجع الكثير.
والسبب يعود ببساطة إلى أن (ألمانيا ليست أمريكا) فقد أخطأت ''وول مارت'' في قراءة المشهد المحلي في ألمانيا وقامت بتنفيذ استراتيجيتها الأمريكية - التي لاقت نجاحا مبهرا - في ألمانيا دون أن تلتفت إلى التفضيلات المحلية، فإدارة الشركة لم تأخذ في عين الاعتبار العادات الاستهلاكية الألمانية، كذلك لم تأخذ في الحسبان تجار التجزئة في ألمانيا الذين أصابهم الهلع من دخول هذا العملاق إلى السوق وخوفهم من أن يسحق وجودهم، ذلك أدخل ''وول مارت'' في منافسة شرسة معهم ألحقت الهزيمة بهذا العملاق.
وذكر الكاتب الألماني Börsenzeitung أن من المشاكل التي أثرت على وجود ''وول مارت'' في ألمانيا أنها أوكلت المهمة إلى أمريكيين لا يجيدون التحدث بالألمانية مما كان يحد من معرفة معلومات عن عادات التسوق المحلي في ألمانيا، وكانت المشكلة الثانية في أن ''وول مارت'' اشترت في البداية سلسلة من 21 متجرا، ثم 74 أخرى، والتي كانت لأصحاب مواقع سابقة فشلت في جعلها مربحة، وكانت المشكلة الثالثة تتركز في الصحافة السيئة ووسائل الإعلام التي صورت ''وول مارت'' غولا سيلتهم السوق الألمانية.
السلطات الألمانية كان لها أيضا دور في عدم نجاح ''وول مارت'' في ألمانيا فقد أبقت تراقبها عن كثب في محاولة منها لمكافحة الاحتكار الذي تسعى ''وول مارت'' لتحقيقه من خلال جذب المستهلكين مع إغراق السوق بسياسة السعر المنخفض، إضافة إلى أن القوانين الألمانية الصارمة التي تنظم ساعات العمل تمنع من أن تبقى المتاجر مفتوحة لفترة طويلة جدا.
وثمة خلل فادح لم تلتفت إليه ''وول مارت'' وهو أن السوق الألمانية مشبعة بالفعل بتجار التجزئة، وخصوصا وجود خصم مثل آلدي وLidl أرخص محال التجزئة في أوروبا، وهذا يعني أن أي منافس جديد في السوق سيجد نفسه لا محالة في معترك حرب أسعار، كما أن وجود مجموعة ''مترو'' لبيع التجزئة في ألمانيا والتي خطفت العديد من سلسة محال البيع رغما عن ''وول مارت'' فقد أجبرت الأخيرة على التخلي عن خططها التوسعية في ألمانيا.
وبالمجمل فإن فشل ''وول مارت'' في ألمانيا يمكن تلخيصه وفقا للمثل الألماني ''نهاية كابوس هو أفضل من الكابوس الذي لا نهاية له''.
والسؤال الذي يدور في الأذهان الآن ما هو مصير العملاق إذا قرر الدخول إلى السوق السعودية؟ هل ستتكرر تجربته الألمانية أم سيلتهم السوق كما فعل في الولايات المتحدة؟
ماجستير الأعمال الموازي - جامعة الملك سعود - كلية إدارة الأعمال