في العنف الأسري..!

يتأكّد أمن المجتمعات، من خلال مجموعة من العوامل والمتغيّرات، والنظم والمؤسّسات التي يجب توافرها، وتفعيل أدوارها ووظائفها وتنميتها تحقيقا لأهداف مهمة:‏ استقرار المجتمعات؛ ونموها وتقدمها؛ ومواجهتها التحديات: الداخلية أو الخارجية. وإذا اختلت وظائف أو بناءات هذه العوامل أو النظم، أو انحرفت عن مسارها الطبيعي، تعرّضت هذه المجتمعات للضعف أو الصراع أو حتى التهديد بالسقوط. هذه العوامل أو النظم تشتمل على أبعاد ثقافية واقتصادية ودينية وأخلاقية وتربوية وعسكرية..
والتحليل الاجتماعي، الذي يؤطّر قضايا الأمن الاجتماعي يؤكد المكانة المحورية التي تحوزها مؤسسة الأسرة في هذا الخصوص؛ فإذا كانت هذه القضايا تتضمن التربية والتعليم، وتشمل بناء الشخصية الوطنية، والعقيدة ونسق القيم واللغة والثقافة، كما تغطي تنمية قيم وروح الولاء للمجتمع ونظامه، وتشمل الحريات، وحقوق الإنسان، وبناء دولة المؤسسات، كما تشمل بناء نظم اقتصادية وعسكرية قادرة على تحقيق الكفاية والتقدم والحماية للمجتمع.. إلخ؛ تظل الأسرة، المؤسسة الأهم في صناعة الإنسان المسلَّح بالعقيدة والقيم والقدرات.. المبدع المنجز، المنتج الذي لديه ولاء لربه ثم وطنه وأسرته ثم مدرسته ومجتمعه وأمته.
في عصرنا الحاضر، انتشرت، ظواهر سلبية على الأسرة، أبرزها: ظاهرة العنف الأسري،‏ ويطلق هذا التعبير، ويُقصد به العنف الذي يدين سلوك الزوج مع زوجته‏،‏ وسلوك الزوجة مع زوجها‏، وسلوك كل من الوالدين مع الأبناء‏،‏ وسلوك الأبناء مع كل من الوالدين،‏ ومع إخوتهم فيما بينهم‏،‏ ثم سلوك أفراد الأسرة مع نظرائهم من الجيران‏، ومع الأقارب،‏ والحياة العامة‏،‏ فهذه صور كثيرة، تضمّن العنف جلها أو كلها..
وبالنظر إلى مؤسسة الأسرة في العالم الإسلامي؛ نجد عدداً من التحوّلات السلبية التي تشكّل خطراً على هذه المؤسسة الاجتماعية؛ فحين تشير الدراسات الميدانية إلى أن معدلات الطلاق تصل في بعض الدول الإسلامية إلى نحو 40 في المائة، فضلاً عن الطلاق النفسي غير المعلن أكثر من ذلك، وحينما تقرأ أن معدلات الإدمان؛ ومعدلات العنف الأسري، والمجتمعي في تزايد مستمر؛ وعندما تستجد في مجتمعاتنا جرائم غريبة على ثقافتنا، وهويتنا العربية والإسلامية، مثل: قتل الأبناء للآباء، والآباء للأبناء، والزوجات للأزواج والعكس؛ وحينما نرى عمالة الأطفال دون سن 14 سنة في تزايد؛ وأطفال الشوارع في حالة تنامي مستمرة، وحينما نلحظ بوادر الاتجار بالبشر من خلال تشغيل الصغار في التسول وتجارة الجنس؛ وتزايد ظاهرة عقوق الآباء، وتخلي بعض الآباء عن الأبناء، وعندما نجد أن الشباب في قطاع كبير يتسم بالسلبية واللامبالاة وعدم المشاركة في قضايا مجتمعهم.. إلخ.. عندما نجد هذا كله وغيره، نقول: إن الأسرة في خطر. ولا حل إلا بعودة الأسرة إلى منهج ربّها في البناء وفي بناء المراحل والأدوار وفي مواجهة تحدياتها وأزماتها.
يحدث ذلك بالرغم من أن منظومتنا الشرعية السمحة، تحث على محاربة هذه الظاهرة المنفلتة، وتقي منها سواءً على مستواه الفردي أم الجماعي‏. وقد أمرنا ديننا الوسطي بالرفق‏،‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله‏»، وقال أيضا: «ما يكون الرفق في شيء إلا زانه‏،‏ ولا ينزع من شيء إلا شانه‏».
كما يحثّنا صلوات الله وسلامه عليه على صلة الأرحام‏، حيث وجَّه الزوج بقوله: «خيركم خيركم لأهله»، ووصفته السيدة عائشة رضي الله عنها‏ «أنه كان في مهنة أهله»، أي أنه كان ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ يحرص على مساعدة الزوجة في عملها وإنجاز مهامها‏؛ درساً لأمته كيف يتعاملون داخل الأسرة..؛ كما حثّ الزوجة وأمرها أن تجعل علاقتها مع زوجها علاقة ربَّانية‏،‏ تطلب بها ثواب الله قبل كل شيء،‏ وترجو سبحانه وتعالى أن يأجرها دنيا وآخرة، على ما قد تكون، تصبر عليه‏، قال تعالى‏: }فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ{ (‏النساء‏:34).‏
كما يوجِّه صلى الله عليه وسلم الآباء فيقول‏: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا‏»،‏ ويوجّه الأبناء فيجعل بر الوالدين مساوياً التوحيد‏: }وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحسانًا‏{ (‏النساء‏:36)، ويأمر الجميع بحسن الجوار؛‏ فيقول‏: «والله لا يؤمن،‏ والله لا يؤمن‏،‏ والله لا يؤمن‏،‏ قيل‏:‏ من يا رسول الله؟ قال‏:‏ من لا يأمن جاره بوائقه‏». ويأمر بصلة الرحم‏،‏ وبفعل الخير‏..
وفي يقيني لا تتوافر حلول لظاهرة العنف الأسري في مجتمعنا، ما لم نقم بعمليات تأمل عميق لحركة التحولات التي تحدث داخل أسرنا، وعلينا ألا نفصل العنف الحالي الحادث أمام أعيننا ونفزع منه ونبحث عن أسبابه..! إذ يجب علينا أن نتقصى أو أن نستقرئ مدلولاته منذ الصغر؛ فإذا عرفنا أن عنف الصغار بدايةً من سن الثامنة،‏ واضطراب الأبوين، أحدهما أو كلاهما، وقلقهما اجتماعيا وعدم توافر المثل والقدوة في البيت والتحول والاهتمام لمشاهدة الأفلام والألعاب والوسائط التي تروّج للعنف؛ جميعها دلالات ومؤشرات خطيرة تشي بمستقبل عنيف؛ خاصة في ظل عدم الإشراف على الأبناء وإهمالهم وفقدان الأم لثقتها بنفسها؛ فضلاً عن عنف الوالدين شجاراً كان أو قسوة بدنية؛ دلائل تؤثر على نفسية الطفل وتولِّد لنا أناسا قليلي الحيلة، منخفضي الذكاء وعدوانيين‏..!
وما زلنا بحاجة إلى أجهزة تنشئة اجتماعية، مبتكرة، ودقيقة، تربط البحث العلمي بالمجتمع‏، وترصد الظواهر الاقتصادية.. الأسرة والهجرة‏، والربط ما بين العدوانية ودخل الفرد والثقافة العامة‏.‏
وإذا كنّا نحيا بالفعل في عصر عنيف، لكن علينا كذلك أن نُعنى بحديقتنا الصغيرة، وأن نرويها دائما‏، ولا نضع الحواجز دون أن تراها الشمس وتضمها‏، ونحميها من الآفات الضارة‏..!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي