أدوار مراكز الأبحاث والتفكير

كثيرة هي النداءات المتواصلة على المستويات الوطنية والعربية لرفع شعار المعرفة والتميز والمنافسة بوصفها قاطرة للتنمية والابتكار والإبداع‏، وهو توجّه صحي عام، يشير إلى رغبة عارمة للتأكيد على الاهتمام الرسمي والشعبي بضرورة البدء في انطلاقة جديدة، تقوم على الارتقاء بجودة العملية التعليمية‏‏ واعتبار المعرفة والعلم أساسي النهضة المنتظرة .. وبالغ البعض في تصوراته بمطالبة المجتمع‏، الذي هو في واقع الأمر ضحية، الوضع العلمي والمعرفي القائم ـــ بجميع فئاته الإسهام في البحث العلمي من خلال الدعوة إلى ترسيخ ثقافة التميز بالمجتمع بوصفها سبيلاً مهمًا للمنافسة في عالم اليوم‏، وكذا الاهتمام بالجودة والكفاية في أداء المجتمع الأكاديمي والثقافي والعلمي واتّباع أساليب جديدة، مبتكرة، منظورة من نظم التعليم والبحث العلمي، وإقامة شراكات مع الهيئات العلمية والبحثية الدولية، تعظّم من قدراتنا على التنمية الذاتية للمجتمع الأكاديمي والبحثي‏، لعلّنا ننتزع اعترافًا دوليًا بإنجازاتنا العلمية وبقدرة علمائنا على المنافسة دوليا وإقليمًا‏!‏
ولكن في واقع الأمر، ربما كانت تلك النداءات هي محض مشاعر عاطفية، ولم يتم تكريس آليات ذلك عمليًا على أرض الواقع العلمي والبحثي الوطني والعربي على السواء، وإلا دعوني أتساء‍ل: ما وظيفة مراكز الدراسات، والأبحاث والنهضة الوطنية والعربية؟ وماذا قدّمته لرصد وتقويم دورها المنشود؟! وما إسهاماتها البحثية المعرفية والعلمية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية؟! وما الدور الذي تقوم به فيما يخص رصد وتحليل التطورات والتحولات التي تشهدها مجتمعاتنا المعاصرة بترابطاتها المحلية والإقليمية والدولية؟!
والإجابة المؤسفة، تقول: إن الوطن العربي بأسره، يعاني عدم فاعلية مراكز الأبحاث والدراسات العلمية‏، ‏وما زال يعاني فجوة، تقنية ومعلوماتية، ومعرفية هائ‍لة، بالرغم من حيازته الأدوات اللازمة، لاستكمال الدورة الحضارية في النهضة، حيث يشكّل سكانه، 5 في المائة من سكان العالم إلا أن إنتاجه المعرفي والعلمي في مختلف المجالات يقل عن المطلوب تحقيقه على الرغم من توافر الموارد البشرية والطبيعية على السواء. ولم تحقّق تجربة العرب في نقل وتوطين المعرفة والتقنية النتائج المرجوة نظرًا لاستمرار تقدم هذه المعرفة تباعًا، في الوقت الذي يأخذ فيه التوطين وقتًا كبيرًا، ما يعوق اكتساب المعرفة وتطويرها، فما بالك بتوطينها؟! وعلى الرغم من توافر هذه المراكز، عمليًا؛ ولكن قدرتها على إحداث التغيير المنتظر أو الواقع ظلت مُجتزأة لصالح عدم إنجاز المناخ العام للتحديث والتطوير والتغيير إلى الأفضل!‏
المجتمعات المتقدمة، أدركت ومنذ فترة طويلة أهمية المعرفة المتخصصة وضرورة الاستعانة بالخبراء والباحثين في مختلف مجالات الحياة، حتى باتت دولها ومنظمّاتها، تعتمد حاليًا في حرب المعلومات على تدمير خصمها في مجال المعلومات، لأن قوة حرب المعلومات، تكمن في إمكانية حدوثها في أي وقت، ودون سابق إنذار أو تحضيرات مسبقة، كما يحدث في الحروب التقليدية؛ فلا يعلم أحد متى ستبدأ؟ وما الأهداف المحتملة أو المتوقعة؟ ومتى ستنتهي؟! فضلاً عن أن التاريخ ينبئ عن مسيرة المراكز العلمية والبحثية في الغرب وإسهاماتها الكبيرة وإمكانياتها المالية الواسعة التي كانت لها الدور الأكبر في نهضة أوروبا والولايات المتحدة ليس فقط تقنيًا وإنما أيضًا على المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ووسيلة مهمة في صناعة التاريخ والمشاركة البناءة في الإسهام الحضاري العالمي‏.‏
قد يتعلّل بعض مسؤولي هذه المراكز بإشكاليات التمويل، رغم تعدد أنشطتها البحثية ما بين إجراء دراسات وبحوث واستطلاعات رأي ودورات تدريبية وحلقات نقاشية وأخرى حسب تخصص الوحدات البحثية والدراسية إلا أنه من المناسب القول: إنه قد أثيرت الشبهات وعلامات الاستفهام حول أداء هذه المراكز البحثية العربية الخاصة أخيرًا فيما يتعلق منها بالتمويل والهيكل التنظيمي واحتمالات اختراقها، جراء تعاونها مع جهات غربية،‏ والأمر الذي يطرح علامات استفهام حول الأسباب الحقيقية التي تحول دون أداء المراكز البحثية، وإسهاماتها في التحديث والتطوير.
وصفوة القول: إنه بالرغم من سلبيات هذه المراكز البحثية، كمراكز تفكير حاليًا، فإنه لا غنى عن تواجدها وتشجيعها، لدورها الكبير في تشكيل الرأي العام وصناعة القرار، حيث يحتل موضوع الرأي العام وصنع القرار موقع القمة في الدراسات التي تؤصل لتطور المجتمعات، وبوصفها إحدى منارات تقدم وتطور بنية أي مجتمع يسير في ركب التحضر في عالمنا اليوم،‏ وكون دورها الاستشرافي للمستقبل‏ يقوم على دراسة الواقع الحاضر وأسبابه وسبل تنمية إيجابياته والتغلب على سلبياته‏، جنبًا إلى جنب مع إيجاد سياسات حماية فاعلة تمنع اختراقها، ومنها على سبيل المثال: الأنظمة واللوائح المنظمة لقبول مثل هذا التمويل وتقنينه.
إن بناء مجتمع المعلومات ربما يحتاج إلى إعادة قراءة لملفات دعوات التطوير والتحديث وحقوق الإنسان، من الداخل، القائم على نقد رصين للذات، ويعد ذلك الحل البديل، والمناسب الصحيح لمخططات إعادة تشكيل المنطقة وفق أجندة خارجية.. مع الاعتراف بوجود ملامح لضعف منظومة المعرفة وانتشار آليات اجتماعية بديلة لحل المشكلات المجتمعية مثل: الوساطة، والمحسوبية، والمحاباة، وترهل بعض مستويات البحث الأكاديمي، فضلاً عن حالة المثقفين والباحثين، الذين يواجهون صعوبات في الوصول للمعلومات، وعدم توافر مصادر مستقلة ومتنوعة للمعلومات، ما يفتح الباب على مصراعيه للاعتماد على المصادر الخارجية، وإشكاليات تدني تمويل البحث العلمي وبعدها عن النشاط الابتكاري، ومشكلة ترويج نتائج البحث والتطوير كعقبات أساسية مفترضة، بل وضعف الروابط بين مؤسسات البحث وقطاعات الإنتاج المختلفة وقصور النشاط الابتكاري وهي ملامح سلبية دومًا ما تعكس واقع المعرفة والساحة البحثية‏ العربية والوطنية على السواء!‏
وعليه فربما من الأهمية بمكان الآن الاستعانة بإحصائيات تقارير التنمية البشرية، التي تصدر سنويًا بإشراف منظمة الأمم المتحدة، حيث يجمع خيوط تحليله لحال المعرفة ويقدم استراتيجية لإقامة مجتمع معرفي يقوم على أركان تفعيل أداء مراكز الأبحاث والمعلومات، لتأسيس نموذج وطني أصيل منفتح، ومستنير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي