Author

المملكة العربية السعودية والعالم .. رؤية استراتيجية للمستقبل.. الاقتصاد والبترول

|
أبدأ بمقولة اجتماعية ذات أصول فيزيائية مفادها: ''كل إناء بما فيه ينضح''، مؤسسا بذلك مدخلي إلى القول إن المكانة العالمية لأي دولة تقوم أساسا على حقائقها الداخلية؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن كانت لها حالة داخلية جيدة، كانت حالتها الخارجية كذلك والعكس صحيح. من هذا المدخل أقول إن الجبهة الداخلية بكل مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي الأساس في معادلة البناء الاستراتيجي لعلاقة الدولة مع الخارج والداخل، والمملكة العربية السعودية ليست استثناء من هذه القاعدة المنطقية والتاريخية. الورقة تناقش المحور الاقتصادي في هذه الجبهة الداخلية؛ لذا فإن المحورين السياسي والاجتماعي سيكونان خارج المعادلة، لكنني ملزم بإدخال المحور السياسي من الباب الخلفي، فالاقتصاد والسياسة تربطهما علاقة عائلية قوية جدا. فمن دون استقرار سياسي لا تفلح الاستراتيجية الاقتصادية في بناء اقتصادي نامٍ ومزدهر يحقق للمواطنين حياة مادية كريمة. #2# هنا يبرز السؤال عن ماهية الاستقرار السياسي المطلوب للبناء الاقتصادي، وأقول إن الاستقرار السياسي الحقيقي والطويل الأمد يقوم على أمور أساسية، هي: * حرية المواطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تلك الحرية التي لا تقف إلا عندما تتعدى على حرية الإنسان الآخر. وبهذا المفهوم الجمعي للحرية يصل المجتمع إلى إطار مدني متحضر للعيش المشترك. * المساواة بين جميع طوائف المجتمع وأعراقه رجاله ونسائه في الحقوق والواجبات. * الالتزام والاحترام الكامل من قبل السلطة التنفيذية والقضائية لحقوق الإنسان التي نصت عليها الدساتير الإلهية والعالمية. * تحقيق العدل واستقلال القضاء وإخضاع الجميع كائنا من كان لقواعده وأحكامه. * تحريم الفساد وتجريمه وحماية وصيانة المال العام بقوة القانون. نعود الآن إلى موضوعنا الرئيس، وهو: الرؤية الاستراتيجية لمستقبل الاقتصاد السعودي والبترول. وفي هذا المحور أطرح العناوين التالية: أولا: واقع الاقتصاد السعودي الراهن ‌أ. إن البترول هو المصدر الرئيس للطاقة في العالم اليوم والبترول بالنسبة للاقتصاد السعودي هو العمود الفقري الذي تقوم عليه كل أركان وزوايا الاقتصاد الوطني. لاحظ أنني استخدمت كلمة (اليوم) للدلالة على أهمية العامل الزمني في هذا الموضوع. ‌ب. البترول مادة ناضبة لا يمكن إعادة إنتاج أي برميل منه يستخرج من مكامنه في باطن الأرض. لقد استغرقت صناعة خام البترول المكون من مواد عضوية من الأشجار والحيوانات آلاف السنين تحت ظروف جيولوجية خاصة. ويحتاج إنتاج المزيد منه إلى آلاف أخرى من السنين. ‌ج. عمر الاحتياط الثابت السعودي وحسب معدل الاستخراج اليومي الراهن وما يتوقع من زيادة في الاستخراج مستقبلا يقدر - بحسب قول الإدارة العليا في شركة أرامكو السعودية، الشركة الحكومية المالكة والمسيطرة على قطاع النفط - بـ 70 عاما. ومما لا شك فيه أن هناك احتمالا لزيادة هذا الاحتياطي إذا تم اكتشاف حقول جديدة أو إضافة جديدة من حقول قديمة رغم ضعف هذا الاحتمال. كما أن هناك احتمالا لأن يكون عمر البترول السعودي أقل من 70 عاما، إما لأسباب جيولوجية وإما لأسباب اقتصادية أو أسباب تقنية. إن 70 عاما ليست بذلك الزمن الطويل في عمر الشعوب، إننا نتحدث عن الجيل القادم من أبناء أبنائنا وبناتنا. ‌د. المملكة العربية السعودية بلاد شاسعة تغطي معظم أجزائها صحراء ورمال تقل فيها الأمطار وتنعدم الأنهار. وتعتمد المملكة على سد حاجتها من المياه بشكل أساسي على المياه الجوفية العميقة الناضبة ومياه التحلية ذات التكلفة العالية. كما تفتقر المملكة إلى الموارد الطبيعية الأخرى غير البترولية من معدنية وغير معدنية بنوعيات جيدة وكميات كبيرة ذات جدوى اقتصادية عالية. ‌هـ. يبلغ عدد سكان المملكة العربية السعودية من السعوديين حسب إحصاء عام 2010م 19 مليون نسمة وإجمالي عدد السكان 26 مليونا، ويتوقع أن يصل عدد السكان السعوديين عام 2020م إلى 24 مليون نسمة، وإجمالي عدد السكان إلى 33 مليون نسمة. وينمو عدد السكان السعوديين بمعدل 2.62 في المائة سنويا وهو من المعدلات العالية في العالم وتبلغ نسبة من تقل أعمارهم عن 15 عاما في المجتمع السعودي نحو 60 في المائة، ما يعني أن هناك حاجة كبيرة إلى الإنفاق الحكومي في مجالات التعليم والصحة قبل أن يصل نصف المجتمع إلى مرحلة العمل والإنتاج. ‌و. مستوى التعليم في المملكة في جميع مراحله ومواده خصوصا تلك المواد العلمية والتقنية منخفض جدا، ورغم فتح باب الابتعاث الحكومي إلى الخارج في السنوات الأخيرة بعد أن أغلق لأعوام طويلة، ورغم أن هناك برنامجا طموحا من حيث الأموال التي رصدت لتقويم وتطوير مناهج التعليم ومؤسساته، إلا أن التغيير النوعي في هذا المجال يحتاج إلى وقت طويل ليتخطى الصعاب التي تعوق خروجه من حالة التخلف التي يعانيها. ‌ز. قبل اكتشاف البترول والبدء في تصديره بعد الحرب العالمية الثانية (1950م)، كان دخل الحكومة السعودية ودخل الفرد ضئيلا جدا (إجمالي ميزانية المملكة عام 1953م بلغت 732 مليون ريال، أي ما يعادل 197.9 مليون دولار)؛ لذا فإن الإنفاق الحكومي والاستهلاك الفردي كان له النصيب الأكبر عندما زاد الدخل الحكومي بعد أن زاد استخراج البترول وزادت أسعاره. لم يكن للادخار الحكومي أو الفردي دور مهم في معادلة توزيع الدخل قديما وحديثا. ومع زيادة عدد السكان، وزيادة المنتج عالميا من السلع الاستهلاكية وسلع الرفاهية، ومع نقص الوعي بأهمية الادخار، فإن الجزء الأكبر من الإيرادات البترولية ذهب للاستهلاك الحكومي المتعاظم والاستهلاك الفردي المتنامي، ولم يبق للمستقبل والأجيال القادمة من ادخار إلا النزر اليسير جدا. ‌ح. منذ أن بدأت الحكومة في الأخذ بمنهج التخطيط الاقتصادي وأصدرت الخطة الخمسية الأولى في عام 1970 وتتابعت بعدها الخطط الخمسية وآخرها الخطة التاسعة (2010 - 2014) ومبدأ تنويع مصادر الدخل يتصدر كل خطة من هذه الخطط، لكن الاقتصاد السعودي بعد 40 عاما من التخطيط الاقتصادي الحكومي (1970 - 2010)، لا يزال يعتمد اعتمادا أساسياً وجذريا على الإيرادات البترولية، حيث يشكل الإيراد البترولي 85,01 في المائة من الإيراد الحكومي و86,03 في المائة من الصادرات السعودية حسب إحصائيات عام 2010. ‌ط. إنه من الواضح في ضوء الحقائق الجيولوجية وضمن الظروف التقنية الراهنة للبترول التي تؤكد نضوبه التدريجي، والحقائق المتعلقة بحجم السكان ونموه المطرد، والحقائق الاقتصادية المتعلقة باعتماد الاقتصاد السعودي اعتمادا كليا على الإيرادات البترولية، والحقائق المتعلقة بالإنفاق الحكومي المتزايد على السلع والخدمات مع إنتاجية متدنية وبيروقراطية مركبة وفساد إداري ومالي يزداد اتساعا، والاستهلاك الفردي المرتفع المصحوب بإنتاجية فردية منخفضة، أمام كل هذه الحقائق والمعطيات فإنه لا بد من الوقوف أمام هذا المشهد المستقبلي للاقتصاد الوطني وطرح السؤال المصيري والجوهري التالي: ما مستقبل الاقتصاد السعودي ومعه الأجيال القادمة عندما ينضب البترول بعد 70 عاما؟ هذه الحقائق المادية وهذا السؤال الجوهري الصارخ، لا يمكن السكوت عليه دون إجابة، وتركه للزمن كما نفعل في معظم قضايانا. إن على الدولة أن تضع الإجابة عن هذا السؤال على رأس أولوياتها الاستراتيجية، وفي هذا المجال وفي هذا الاتجاه أطرح رؤية استراتيجية سبق لي طرحها في مناسبات سابقة، وفيما يلي بنودها الرئيسة: #3# ثانيا: الإطار العام لرؤية استراتيجية اقتصادية أ‌- في مجال الاقتصاد الوطني 1. الادخار الوطني: صندوق الأجيال القادمة اقتطاع نسبة محددة من الإيراد البترولي سنويا تتناسب طرديا مع حجم المستخرج من خام البترول وإيداعه في صندوق سيادي للادخار والاستثمار ينشأ لبناء رأسمال منتج متنام يتلازم مع اضمحلال رأس المال البترولي؛ وذلك لدعم الاقتصاد الوطني مستقبلا وتأمين دخل سنوي يكون رافدا وحاملا للقاعدة الرأسمالية المنتجة للدخل الحكومي عندما تبدأ الأصول البترولية في التناقص ويبدأ الدخل البترولي في الانخفاض. يسمى الصندوق ''صندوق الأجيال القادمة'' أو أي اسم يشير إلى هذا المعنى، ويكون الصندوق تحت إدارة هيئة مستقلة عن الحكومة، ويمنع على الحكومة استخدام موارد هذا الصندوق أو الاقتراض منه إلا في حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية. 2. إشراك المواطنين في امتلاك وإدارة الأصول البترولية إشراك المواطنين في امتلاك وتشغيل وإدارة القطاع البترولي السعودي، سواء فيما يتعلق بعمليات الاستكشاف، والتنقيب، والاستخراج، والنقل، والتصدير وذلك من خلال تحويل شركة أرامكو إلى شركة أو شركات مساهمة عامة سعودية تقتصر ملكية أسهمها على المواطنين فقط. وهذا الإجراء سيرفع من أداء هذا القطاع، ويعيده إلى حظيرة القطاعات الاقتصادية الوطنية ويرفع عن الدولة الضغوط السياسية التي تمارسها بعض الحكومات الأجنبية لزيادة الاستخراج أو تخفيض الأسعار. إن هذا التغيير في الإطار المؤسسي لملكية وإدارة القطاع البترولي لا يمنع أن تكون ملكية خام البترول في باطن الأرض للحكومة كممثلة للمال العام، فملكية الشركات المساهمة للأصول البترولية هي من قبيل التأجير طويل الأجل. 3. الاستثمار الوطني (‌أ) يكون الاستثمار الوطني أولا في الإنسان، رجلا وامرأة من أجل بناء رأسمال بشري وطني على مستوى عالمي من المهارة العلمية يكون الجوهر والأساس لبناء رأسمال مادي وطني منتج بديل للبترول المستهلك. رأس المال البشري الوطني يؤسس لبناء رأس المال المادي ويكون هو ذاته رأس مال منتج قادر على العمل والإنتاج بقيمة مضافة عالية في السوق المحلي والسوق العالمي. (‌ب) يكون الاستثمار الوطني بعد الاستثمار في الإنسان في بناء رأس مال مادي منتج على أسس اقتصادية وإنتاجية عالية لها ارتباط وثيق بنمو الاقتصاد المحلي، ورفع مستوى دخل المواطن ورفاهيته المادية. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار، في عملية بناء رأس المال الوطني المنتج، تأمين مبدأ تنويع مصادر الدخل، وعدم التركيز على الاستثمارات المرتبطة بالمادة البترولية الناضبة. (‌ج) يأخذ الاستثمار الخارجي المرتبة الثالثة ويتم اختيار المشاريع الآمنة وذات الإنتاجية العالية التي تدعم الإنتاج الوطني والدخل الوطني. 4. هيكلة القطاع الحكومي وترشيد الإنفاق (‌أ) إعادة هيكلة القطاع الحكومي على مبدأ الكفاءة الإنتاجية والإدارية، وذلك بهدف إزالة ترهل وتعدد الوزارات والمؤسسات الحكومية، وتقليص حجم الرواتب والأجور التي تبتلع الجزء الأكبر من الميزانية، وزيادة الإنتاجية ورفع مستوى الخدمات الحكومية. ولابد أن يصاحب برنامج الهيكلة هذا، برنامج اجتماعي حكومي توفر الدولة له الأموال والصلاحيات الكفيلة بإعادة هيكلة الوضع الوظيفي والمادي للموظفين السعوديين الذين سيتم الاستغناء عن خدماتهم بحكم هيكلة الجهاز الحكومي وتقليص حجمه. وتجدر الإشارة إلى أن الجهاز الحكومي بواقعه الحالي يعتبر المستخدم الأكبر للسعوديين وهذا أحد أسباب تدني مستوى الإنتاجية للفرد وزيادة حجم الرواتب في الميزانية على حساب المشاريع الرأسمالية والصيانة؛ لذلك فإن عملية الهيكلة وتقليص عدد الموظفين يجب أن تأخذ في الاعتبار الجوانب الاجتماعية والإنسانية المتعلقة بالموظفين الحكوميين الذين سيتم الاستغناء عن خدماتهم. (‌ب) ترشيد الإنفاق الحكومي بشكل عام، خصوصا ما يتعلق بالمشاريع العملاقة ذات الطبيعة الاستهلاكية التي لا ترتبط بشكل مباشر بالاقتصاد الوطني وبزيادة مستوى الإنتاجية والتوظيف وزيادة رأس المال الوطني. (‌ج) الحد من نفقات الدفاع والأمن وتوجيه مشاريعها وتخصصات أفرادها نحو المشاركة في الإنتاج المدني كلما كان ذلك ممكنا. (‌د) الحد من الهبات والمعونات والقروض الأجنبية الميسرة واقتصارها على حالات الضرورة السياسية والإنسانية. 5. الفساد الإداري والمالي وصيانة المال العام وضع القواعد والضوابط الإدارية والمالية الحازمة لصيانة المال العام والحد من الفساد وتطبيق القانون بشكل شامل وعادل وصارم على كل من تمتد يده إليه. 6. النمو السكاني إعداد برنامج وطني لتخفيض النسبة العالية في النمو السكاني، وذلك من خلال نشر الوعي الشعبي بثقافة التخطيط الأسري. ويمكن أن يلعب الفكر الديني المستنير دورا مهما في هذا المجال. 7. الرعاية الاجتماعية لكل مواطن إلى جانب حقوقه الإنسانية حق اقتصادي يتمثل في كفالة المجتمع له في تأمين الحد الأدنى من الحياة المادية والصحية والتعليمية والسكنية التي تحافظ على كرامة الإنسان وتحميه من السقوط في هاوية الفقر ومضاعفاته. إن هذه المسؤولية الاجتماعية تقع ضمن الأولويات الأساسية في بناء المنظومة الاقتصادية والاجتماعية الوطنية. 8. توطين العمالة على أسس الكفاءة المهنية والإدارية إن رأس المال البشري، رجالا ونساء، هم القاعدة الأساسية التي يبنى عليها ومنها رأس المال المنتج الرافد والداعم للاقتصاد السعودي حاضرا ومستقبلا، ورأس المال البشري هذا هو البديل الأساسي مع بدائل أخرى لتعويض الاستهلاك التدريجي لرأس المال النفطي؛ لذا فإنه من الأهمية بمكانة وضع الضوابط والحوافز اللازمة فنيا وإداريا وماليا لتسهيل ودعم استخدام الكفاءات الوطنية المؤهلة في إدارة وتشغيل مرافق الاقتصاد الوطني وقطاعاته، خصوصا في المواقع الفنية والإدارية العليا ذات العائد الإنتاجي الأعلى. إن هذا النظام يجب أن يختلف جذريا عن نظام السعودة الذي أثبت فشله في تحقيق أهدافه. 9. النظام الضريبي الشعوب تمول الإنفاق الحكومي باستقطاع جزء من دخلها (الضريبة المباشرة) أو جزء من قيمة مشترياتها (الضريبة غير المباشرة)؛ لذا فإن كل موظف حكومي من رأس الهرم إلى قاعدته، موظف لدى الشعب وملزم بالمحافظة على المال العام وأداء واجبه على أحسن وجه ضمن الضوابط والقوانين الإدارية والمالية. إن للضرائب فوائد جمة لا تقتصر فقط على تمويل الإنفاق الحكومي إنما تتعداه إلى تعميق مفهوم المواطنة والمسؤولية والحقوق والواجبات، إضافة إلى أن النظام الضريبي من أهم السياسات المالية لإدارة الاقتصاد الوطني وتوجيه مساراته الاستهلاكية والاستثمارية. المملكة لا تملك نظاما ضريبيا بالمفهوم الحقيقي للنظام الضريبي، كما أن مساهمة الضرائب في تمويل الميزانية لا تكاد تذكر؛ لذا فإن تطوير النظام الضريبي في المملكة يجب أن يكون من البنود الرئيسية في الاستراتيجية الاقتصادية. لكن أي نظام ضريبي تقوم شرعيته ويستمد قوته وهيبته من كونه نظاما يطبق على جميع المواطنين من رأس الهرم حتى قاعدته دونما أي استثناء إلا لصاحب دخل محدود أو فقير يستثنى من الضريبة بموجب مواد النظام. وإن كان الأمر غير ذلك فلن يكون هناك نظام ضريبي حقيقي. ب‌- في مجال الاستخدام الأمثل للثروة النفطية قدمتُ ومنذ البداية العامل الداخلي على الخارجي في معادلة بناء استراتيجية اقتصادية وطنية، وقلت إن تماسك وترابط وقوة العوامل الداخلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي التي تؤسس بشكل حقيقي وفاعل لبناء تلك الاستراتيجية التي تحدد أسس وقواعد التعامل مع المجتمع الداخلي (المواطنين) والمجتمع الدولي. خام البترول الذي ورثته هذه الأمة من الطبيعة، وفّر لها الدخل الذي أعانها ويعينها على سد حاجتها من السلع والخدمات، وبناء الطرق والمدارس والمستشفيات وغير ذلك من مستلزمات الحياة الرأسمالية والاستهلاكية. والبترول السعودي، هو ذاته الذي يؤمّن للعالم الخارجي من الدول الصناعية وغيرها جزءا مهما من حجم استهلاكها البترولي. لذا فنحن أمام سلعة استراتيجية لها من جهة ارتباط وثيق بالاقتصاد السعودي اليوم والاقتصاد السعودي في المستقبل، ومن جهة أخرى لها دور مهم في حركة الاقتصاد العالمي ونموه. أمام هذين الوجهين للسلعة البترولية السعودية يقفز سؤال مهم: لمن الأولوية والأهمية في الاستفادة من استخراج وبيع السلعة البترولية السعودية ذات الطبيعة الناضبة؟ أهي الأجيال السعودية الحاضرة والقادمة أم الاقتصاد الدولي ورفاهية الشعوب المستهلكة للنفط؟ لا شك أن مصلحة المواطن في حاضره ومستقبله لها الأولوية والأهمية الكبرى في معادلة الاستخدام الأمثل للثروة البترولية السعودية، لكن ذلك لا يمنع أن يكون لمصلحة العالم واقتصاده موقع في هذه المعادلة، خصوصا أن الطلب على البترول العالمي الذي يؤسس لقيمته الاقتصادية نابع من استهلاك الاقتصاد العالمي للبترول. فالمملكة العربية السعودية تتحكم في عرض بترولها، والعالم الخارجي يتحكم في الطلب عليه، وضمن طرفي هذه المعادلة يمكن الوصول إلى نموذج اقتصادي يحدد الاستخدام الأمثل لهذه الثروة الوطنية ويحفظ جزءا منها للأجيال القادمة، ولا يحرم الاقتصاد العالمي من طاقة تساعده على النمو والاستقرار. في إطار هذه الرؤية الاقتصادية البترولية الوطنية والعالمية، يمكن إعداد نموذج اقتصادي Economic Model يقوم أساسا على تعظيم المردود الاقتصادي من استهلاك الرصيد الوطني من خام البترول لمصلحة الأجيال السعودية في الحاضر والمستقبل كهدف أول، وفي الوقت نفسه إمداد السوق العالمية بما تحتاج إليه من البترول وبالسعر المتناسب كهدف ثان. في عام 1974، أنهيت رسالة الدكتوراه وكان هذا هو موضوعها وعدت قافلا إلى الوطن متجها إلى وزارة البترول، حيث تصاغ وتطبخ السياسات البترولية السعودية، ولم أحتج إلى وقت طويل لأجد أن المنطق الاقتصادي في عالم، وسياسة البترول السعودية في عالم آخر، فظللت أكتب منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، معتبرا أن رسالتي لم تنته، وهي لن تنتهي حتى تفسح السياسة البترولية السعودية مكانا مهما في معادلاتها الاستخراجية والسعرية للمنطق الاقتصادي المعني بالاستخدام الأمثل للثروة الوطنية البترولية وحماية مستقبل الأجيال القادمة. ومن دون الدخول في تفاصيل المعادلات الرياضية لذلك النموذج الرياضي وغيره من النماذج الكثيرة التي نشرها آخرون، فإن النقاط الجوهرية يمكن حصرها فيما يلي: 1. النفط لسد حاجة الاستهلاك المحلي يُستخرج سنويا كمية من النفط تكون كافية للاستهلاك المحلي الأمثل والمرتبط بزيادة الإنتاجية في الاقتصاد الوطني. وتقوم الحكومة ببيع هذا النفط للشركات والمؤسسات المحلية بسعر منخفض أو بالسعر الدولي. 2. النفط للتصدير من أجل تمويل الميزانية الحكومية يستخرج سنويا كمية من النفط تزيد على كمية النفط المستخرجة لسد حاجة الاستهلاك المحلي؛ وذلك بهدف التصدير للسوق العالمي للنفط من أجل تمويل نفقات الميزانية الحكومية وتخضع عملية الاستخراج النفطي الأمثل للتصدير للمعادلات التالية: (‌أ) إذا كان معدل الزيادة السنوية في سعر البترول في باطن الأرض) في السنوات المقبلة أعلى من معدل سعر الفائدة السنوي على قروض الحكومة السعودية من سوق المال العالمية والمحلية)، فمن الأفضل للاقتصاد الوطني بقاء البترول في داخل الأرض وتمويل ما تحتاج إليه الميزانية السعودية من أموال إضافية على إيراداتها غير البترولية بالاقتراض من السوق المالية العالمية والمحلية بضمان بترولها في باطن الأرض و/ أو أصولها المالية. (‌ب) إذا كان معدل الزيادة السنوية لسعر البترول في باطن الأرض في السنوات القادمة) أقل من معدل الفائدة السنوية على القروض الحكومية من السوق المحلية والعالمية) ، فمن الأفضل لتعظيم العائد الوطني من الثروة البترولية إخراج وبيع كميات أكثر من النفط لتمويل الميزانية واستثمار الفائض المالي في استثمارات أجنبية أو محلية تدر عائدا سنويا مقدار). (‌ج) إذا كان معدل الزيادة السنوية لسعر البترول في باطن الأرض في السنوات المقبلة) يساوي معدل الفائدة السنوي على القروض الحكومية)، ففي هذه الحالة، يتساوى الأمر بين استخراج النفط وبيعه لسد حاجة الميزانية أو الاقتراض من السوق المحلية والعالمية لتمويل نفقات الميزانية. لا شك أن هذا نموذج استثماري مبسط، لكنه أساسي في بناء معادلة الاستخدام الأمثل للثروة النفطية الوطنية. إذا افترضنا عدم حدوث متغيرات كبيرة في صناعة الكشف واستخراج خام البترول أو انقلاب جذري في تقنية استخدام البترول في الطاقة، فإنه يمكن القول إنه في ظل شح المتوافر من خام البترول للاستخراج الاقتصادي وفي ظل الطلب المتزايد عالميا عليه، فإن سعر خام البترول سيكون معدل ارتفاعه المستقبلي ) أعلى من سعر الفائدة على القروض السيادية للمملكة العربية السعودية للأمد المتوسط والطويل )؛ ما يعني بالتالي أنه من الأفضل للمملكة العربية السعودية ماليا الاقتراض من السوق المحلية والعالمية لسد حاجتها من التمويل بضمان بترولها في باطن الأرض و/أو أصولها المالية. إذن نحن أمام وضع اقتصادي يرتبط فيه استخراج خام البترول بهدف التصدير للسوق النفطية العالمية بسوق المال العالمية، وذلك من خلال الزيادة السنوية في سعر البترول، ومعدل الفائدة السنوية على القروض السيادية. وحالة التوازن بين هاتين السوقين حالة نادرة، أما الغالب حسب الوضع الراهن والمتوقع مستقبلا ضمن فرضيات مقبولة هو أن المملكة العربية السعودية ومن يملكون قدرات على استخراج النفط وتصديره ضمن تكلفة منخفضة لن يكون لديهم الحافز المالي لاستخراج خام البترول من باطن الأرض بهدف تصديره إلى الأسواق العالمية؛ نظرا لأن سعر الفائدة على القروض السيادية) المضمونة بأصول مالية ونفطية سيكون في الغالب أقل من معدل الزيادة السنوية المتوقعة لسعر خام البترول ). وبناءً عليه يمكن لنا القول إنه لا بد من دعم آلية اليد (الخفية) Invisible Hand في التجارة الدولية لجعل أصحاب النفط الخام ممن يملكون منه كميات كبيرة ويستطيعون استخراجه بتكلفة قليلة ولا يحتاجون منه محليا إلا القليل مثل المملكة العربية السعودية، راغبين بحكم مصلحة شعوبهم المالية المستقبلية، في استخراج وتصدير الكميات التي تحتاج إليها الدولة المستهلكة للنفط، لنمو اقتصادها ورفاهية شعوبها. السوق العالمية للنفط ستواجه عجزا في الإمداد في الحالة (1)، لأن استخراج النفط الخام السعودي من أجل التصدير للأسواق العالمية يعني خسارة مالية للاقتصاد السعودي في الحاضر والمستقبل، ومن أجل الخروج من هذه الحالة فإنه لا بد للدول ذات الحاجة إلى النفط السعودي أن تقدم بديلا استثماريا للسعودية تعادل أو تربو عوائده السنوية) على معدل الزيادة السنوية في سعر البترول). 3. صكوك دولية سيادية للنفط إذا استثنينا الجوانب السياسية والأمنية التي قد تجعل دولة نفطية تصدر النفط إلى دولة أخرى، فإن الحافز المالي يتطلب تساوي العائد السنوي من استثمار الفوائض المالية للمملكة العربية السعودية الناجمة من تصدير البترول السعودي إلى السوق العالمية مع الزيادة السنوية في سعر البترول. وحيث إننا نعمل في الفرضية القائلة إن أكبر من، وحيث إنه من الصعب تعديل معدل على مستوى السوق المالية العالمية ليتلاءم مع (نظرا لارتباط سعر الفائدة العالمي بحركة وآلية سوق المال العالمية وارتباطاتها المختلفة؛ لذا فإنني أقترح أن تقوم الدولة المستهلكة للنفط بإصدار صكوك سيادية طويلة الأجل، وتقايضها مع الدولة النفطية مقابل كميات البترول المطلوبة، ومن غير المستبعد أن تنشأ سوق خاصة لهذه الصكوك البترولية تدر عائدا سنويا يساوي أو يزيد على الارتفاع السنوي المتوقع لسعر البترول. وبهذه المعادلة يمكن ضمان استقرار الإمدادات النفطية وضمان استقرار الأسعار، والمحافظة على مصالح الدول المصدرة والمستهلكة للنفط. * لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى: - Abdulaziz M. Al-Dukheil. An Optimum Base for Pricing Middle Eastern Crude Oil. Indiana University – US. 1974. - Abdulaziz M. Al-Dukheil and Darwin Wassink. ''Oil and the International Finance System''. Business Horizons Journal- Indiana University – Business School. April 1977. خاتمــة هذا النموذج الاقتصادي يقوم أساسا على إيجاد رابط اقتصادي طويل الأمد بين سوق النفط العالمية وسوق المال العالمية بدلا من الرابط السياسي أو رابط سوق المضاربات، يكون للدول الرئيسة المستهلكة للنفط والدول الرئيسة المصدرة للنفط دور في وزن آلياته وحركة مكوناته بدلا من ترك الإمداد النفطي وسعره لعواصف الرياح السياسية أو عواصف المضاربات المالية التي أدت إلى عدم الثقة في استمرار الإمدادات النفطية لآجال طويلة وإلى تذبذب وارتفاع أسعار النفط دون مبرر اقتصادي. وفي اعتقادنا، أنه على الأمد الطويل سيؤدي هذا النموذج في العلاقة بين الدولة التي تملك كميات كبيرة من النفط تربو على حاجتها الداخلية مثل المملكة العربية السعودية، وبين الدول الصناعية المستهلك الأكبر للنفط، إلى استقرار في إمداد السوق العالمية بالنفط، وإلى استقرار أسعار النفط. إن أقرب مثال على أهمية الدور الحكومي للتدخل في ضبط إيقاع السوق الحر، خصوصا في الأمور المؤثرة بشكل كبير في حركة وسلامة الاقتصاد العالمي، هو الانفجار الذي حدث في السوق المالية العالمية عام 2008م وما أعقبه من تنظيمات ولجان على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، منها وأهمها مجموعة العشرين. وكي يكون هذا التعامل الدولي بين أكبر الدول تصديرا للنفط وأكبر الدول استيرادا له فاعلا فإنه لا بد أن تكون العلاقة السياسية والاقتصادية بينهما ملائمة لقيام تعاون جدي وبنـَّاء، وهذا يتطلب احترام كل طرف حقوق الطرف الآخر ومصالحه الوطنية. نقلت وكالة رويترز من واشنطن يوم الخميس الموافق السابع من نيسان (أبريل) عام 2011م الخبر التالي: ''تصوّت لجنة مجلس الشيوخ الأمريكي هذا الأسبوع على مشروع قانون سيسمح لوزارة العدل بمقاضاة الدول الأعضاء في منظمة أوبك بتهمة التلاعب في السعر، وذلك مع تعرض الاقتصاد مجددا لخطر ارتفاع البنزين''. هذه السياسات شبه العدائية تجاه دول ''أوبك'' من الدول الصناعية الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة، هي أسوأ السبل والسياسات لتأمين استقرار وتوازن السوق العالمية للنفط. قد تخضع الحكومات في دول ''أوبك'' ومنها المملكة العربية السعودية للضغوط السياسية أو الأمنية للتأثير في سياسة استخراج النفط وتسعيره، لكن الشعوب أصبحت اليوم واعية بحقوقها السياسية والاقتصادية. فالشعب العربي بشكل عام ومنه شعب المملكة العربية السعودية مستاء مما يراه انحيازا ودعما من قبل الغرب، خصوصا الولايات المتحدة لعدوه الإسرائيلي الرافض لعملية السلام والمنتهك لحقوق الإنسان الفلسطيني. وعندما يضاف إلى هذا العامل السياسي المهم عامل التوظيف السياسي والأمني لاستنزاف الثروة البترولية الوطنية لشعب لا يملك من الثروات الطبيعية له ولأجياله إلا هي، يكون مستقبل العلاقة النفطية الطويلة الأجل بين السعودية والغرب الصناعي المستهلك الأكبر للنفط في مهب الريح.
إنشرها