Author

سعر صرف الريال ومعدل التضخم

|
يلعب سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية الأخرى دورا مهما في استقرار المستوى العام للأسعار وتحقيق التوازن الخارجي، الذي ينعكس بدوره على معدل النمو الاقتصادي المستمر والمستدام. فمن الناحية النظرية يؤثر تقويم العملة بأعلى من قيمتها الحقيقة Overvalued على الأداء الاقتصادي للبلد من حيث القدرة التنافسية للسلع والخدمات الوطنية في الأسواق العالمية التي ستتراجع بسبب ارتفاع أسعار هذه السلع في الخارج، وبالتالي عرقلة النمو الاقتصادي. بينما يؤدي تقويم العملة بأقل من قيمتها الحقيقية Undervalued إلى تحسن ميزانها التجاري؛ نظرا لانخفاض تكلفة الحصول على السلع والخدمات الوطنية في الدول الأجنبية مما يزيد من الطلب الأجنبي على السلع الوطنية، مما يساعد على النمو الاقتصادي. هذا التأثير يعتمد وبشكل رئيس على عوامل عدة، أهمها تنوع القاعدة الاقتصادية للدولة، ونمط التجارة الخارجية، ودرجة الانفتاح الاقتصادي. فعلى سبيل المثال يؤدي انخفاض سعر صرف العملة لدولة ما تعتمد على الصادرات كمحرك رئيس للاقتصاد (اليابان مثلا) إلى زيادة الطلب على منتجاتها في الأسواق الخارجية؛ مما يساعد على زيادة الإنتاج المحلي والتوظف. في المقابل نجد أن تأثير انخفاض سعر صرف العملة قد يكون سالبا عن طريق التأثير المباشر على أسعار الواردات التي تدخل ضمن الرقم القياسي لمستوى الأسعار، خصوصا إذا كانت هذه الدولة تعتمد على استيراد معظم سلعها الغذائية والاستهلاكية النهائية من الخارج، والتأثير غير المباشر على أسعار السلع الأولية والوسيطة المستوردة وبالتالي إلى زيادة معدل التضخم. تعتبر العملة ضعيفة (قوية) في الخارج إذا ما انخفضت (زادت) قيمتها في سوق الصرف الأجنبي، كما أن تغيير القيمة الخارجية للعملة الوطنية سواء بالانخفاض أو الارتفاع يمكن أن يؤثر على بنود ميزان المدفوعات كافة (الميزان التجاري، وحساب رأس المال)، وعليه يتعين على الدولة التي تتبع نظام سعر الصرف الثابت أن تحدد بالضبط مستوى سعر الصرف التوازني، وأن تقوم بتحريك سعر صرف عملتها اتجاه هذا المستوى التوازني. مع بداية كل موجة تضخم يشهدها الاقتصاد السعودي، يثار موضوع ارتباط الريال بالدولار الأمريكي، حيث نجد البعض ينادي بفك هذا الارتباط القديم وربط الريال بسلة عملات مختلفة الأوزان، بينما يرى الآخرون أن قيمة الريال مقومة بأقل من قيمته الحقيقية، وعليه يجب رفع قيمته مقابل الدولار؛ وذلك لأن الارتباط بالدولار الضعيف يولد "التضخم المستورد" (انظر العدد رقم 6393 بتاريخ التاسع من جمادى الأولى 1432هـ من هذه الجريدة). في هذا المجال يمكن إثارة تساؤلات عديدة، من أهم هذه الأسئلة - في اعتقادي - هي أولا: كيف يمكن لنا تحديد ما إذا كانت العملة الوطنية مقومة بأقل من قيمتها أو بأعلى من ذلك؟ وثانيا: ما هو تأثير رفع قيمة الريال على الاقتصاد الوطني؟ يمكن تقسيم سعر الصرف إلى ثلاثة أنواع رئيسة: سعر الصرف الاسمي، وسعر الصرف الحقيقي، وسعر الصرف التوازني. يشير سعر الصرف الاسمي إلى قيمة العملة الوطنية مقابل عملة أجنبية أخرى في لحظة زمنية معينة ( الدولار = 3.75 ريال). أما سعر الصرف الحقيقي فيشير إلى قيمة السلع والخدمات الأجنبية اللازمة لشراء وحدة واحدة من السلع والخدمات المحلية. أن سعر الصرف الحقيقي، بخلاف سعر الصرف الاسمي، يأخذ في الحسبان الاختلافات في معدل التضخم بين الدولتين محل الدراسة. بعبارة أخرى، فإن سعر الصرف الحقيقي للدولار - الين يساوي معدل التبادل الاسمي للدولار - الين مضروبا في مستوى الأسعار في اليابان بالنسبة لمستوى الأسعار في أمريكا. وأخيرا يعتبر سعر الصرف التوازني أحد أهم المفاهيم النسبية والضمنية في نظرية الاقتصاد الدولي، الذي يحقق الاستقرار في المستوى العام للأسعار في الأجل الطويل. وعليه يشير اختلال سعر الصرف الحقيقي Real Exchange Rate Misalignment إلى الحالة التي يكون فيها سعر الصرف الحقيقي للعملة منحرفا عن سعر الصرف التوازني الضمني. وبالتالي تكون العملة مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية عندما يكون سعر الصرف الحقيقي للعملة أقل من هذا السعر التوازني. كما أن العملة تكون مقومة بأعلى من قيمتها الحقيقية عندما يكون سعر الصرف الحقيقي للعملة أكبر من سعر الصرف التوازني. وعلى الرغم من الدقة في تحديد هذا المفهوم في اختلال سعر الصرف الحقيقي، وقيام الاقتصاديين بتطوير بعض النماذج الرياضية لقياس هذا الاختلال، إلا أنه ما زلت هناك صعوبة في قياس انحراف سعر الصرف الحقيقي عن سعر الصرف التوازني نتيجة لصعوبة تحديد الأخير (السعر التوازني). ومن ثم يبقى موضوع تحريك سعر صرف العملة الحقيقي اتجاه السعر التوازني محل جدال ونقاش. السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو ما مدى بعد سعر صرف الريال الحقيقي عن سعره التوازني؟! في مقدمة المقال ذكرنا أن الانحراف الكبير والمستمر في سعر الصرف الحقيقي عن مستواه التوازني يمكن أن يكون له آثار سلبية على الاقتصاد الوطني، خصوصا إذا أدى هذا الاختلال إلى تدهور وضع ميزان المدفوعات. فعندما تكون عملة هذا الاقتصاد مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، يخلق هذا الاختلال حالة من عدم الاستقرار في المستوى العام للأسعار الذي يؤدي في النهاية إلى ارتفاع تكاليف المعيشة (زيادة معدل التضخم) في الأجل الطويل. هذا يقودنا إلى التساؤل الثاني في هذا المقال. يرى البعض أن ارتفاع معدل التضخم في المملكة في الفترة الأخيرة هو نتيجة لاستمرار انتهاج لسياسة ربط الريال بالدولار الذي فقد نسبة كبيرة من قيمته الحقيقية اتجاه العملات الأجنبية الأخرى مثل اليورو، والجنيه الاسترليني، والين الياباني. فكلما انخفضت قيمة الدولار مقابل العملات الأجنبية الرئيسة الأخرى، انخفض سعر صرف الريال مقابل هذه العملات؛ مما يجعل تكلفة الحصول على السلع الغذائية ولاستهلاكية من هذه الدول مرتفعة، وبالتالي ارتفاع أسعار هذا السلع والخدمات محليا. ولإعادة التوازن في المستوى العام لأسعار السلع الغذائية والاستهلاكية المستوردة من الخارج، يطرح البعض فكرة رفع قيمة سعر صرف الريال اتجاه الدولار. وعلى الرغم من صحة هذه الفكرة على الأقل من الجانب النظري، إلا أنها تغفل بعض الجوانب التي قد تكون لها آثار معاكسة على الاقتصاد الوطني. ولمعرفة الآثار المتوقعة من رفع قيمة الريال مقابل الدولار، لا بد لنا من دراسة تأثير هذا التوجه على بنود ميزان المدفوعات. لنفترض أنه تم رفع قيمة سعر صرف الريال ليصبح كل دولار = 3.25 ريال. إن رفع قيمة الريال تعني أنه أصبح بالإمكان الحصول عليه بمقدار من العملة الأجنبية أكبر من السابق؛ مما يجعل السلع والخدمات السعودية أقل تنافسية في كل من السوق الداخلية وفي الأسواق الخارجية. أو بعبارة أخرى، الواردات السعودية تصبح أقل سعرا مقومة بالريال، في حين أن الصادرات السعودية تصبح أعلى سعرا مقومة بالعملات الأجنبية الأخرى. وبالتالي فإن أول هذه الآثار هو انخفاض حجم الصادرات الوطنية. من جهة أخرى وبسبب تسعير النفط بالدولار الأمريكي فإن الصادرات النفطية التي تشكل نحو 88 في المائة من إجمالي الصادرات ستنخفض قيمتها بنسبة الارتفاع في قيمة الريال نفسها، حتى وأن لم يتغير حجم الصادرات النفطية. ونتيجة لهذا التغير في سعر الصرف، تقل الصادرات فيما ترتفع الواردات. هذا التغير في موقف كل من الصادرات والواردات قد يدفع إلى حدوث عجز في الميزان التجاري للدولة. أما في الوضع الداخلي، فإن البضائع المستوردة مخفضة السعر قد تؤدي إلى زيادة الطلب المحلي عليها؛ مما يعني تدهور وضع السلع والخدمات المحلية، وبالتالي يقل الإنتاج المحلي ينتهي بارتفاع معدل البطالة. ثانيا: الإيرادات النفطية التي تشكل نحو 90 في المائة من الإيرادات الحكومية ستنخفض بشكل ملحوظ، الذي بدوره سيؤثر على الميزانية العامة للدولة. ثالثا: أن رصيد الاحتياطي من النقد الأجنبي سيتأثر بشكل سلبي، خصوصا تلك الاحتياطيات الدولارية. وأخيرا إن رفع قيمة الريال السعودي ستؤدي إلى خفض قيمة الاستثمارات السعودية الخارجية المقومة بالدولار الأمريكي، وحين ترتفع قيمة الأصول المالية الأجنبية في المملكة. أين المشكلة؟ بالنظر إلى الشركاء التجاريين الرئيسين للمملكة نجد أن - حسب الإحصاءات الصادرة عن مصلحة الإحصاءات العامة - الولايات المتحدة لها النصيب الأكبر بنحو 13.3 في المائة من إجمالي واردات المملكة، ثم الصين بنسبة 12.1 في المائة، ودول مجلس التعاون الخليجي بمعدل 20.3 في المائة، ثم اليابان 7.9 في المائة، وألمانيا 7.7 في المائة، وفرنسا 3.6 في المائة وبريطانيا 3.4 في المائة. هذا يوضح أن نحو 50 في المائة من البضائع المستوردة تأتي من دول تتعامل بالدولار الأمريكي؛ مما يعني عدم تأثر أسعار هذه البضائع بقيمة الريال السعودي. مما يعني أن هناك عوامل أخرى تؤثر في المستوى العام للأسعار غير سعر صرف الريال اتجاه الدولار. من جهة أخرى، نجد أن دولة الكويت التي تتبع سلة عملات في تقويم عملتها شهدت موجة تضخم كبيرة في عام 2008، حيث وصل معدل التضخم السنوي إلى 10.6 في المائة بينما كان معدل التضخم لدينا نحو 9.8 في المائة. خلاصة القول أن انخفاض قيمة الدولار في الفترة الأخيرة أثر في المستوى العام للأسعار في المملكة، ولكن في اعتقادي أن أساس مشكلة ارتفاع أسعار السلع والخدمات (التضخم) لدينا ليست في انخفاض قيمة الريال الناتج من ضعف الدولار، وإنما هي مشكلة هيكلية تتمثل في احتكار السوق وغياب الأدوات الرقابية على السوق المحلية من جهة أخرى. وخير دليل على ذلك هو الارتفاع الملحوظ وغير المبرر في أسعار السلع والخدمات الذي صاحب صدور الأوامر الملكية الكريمة الأخيرة.
إنشرها