النظم البريدية في العالم الإسلامي قبل العصر الحديث

يتناول هذا الكتاب النظم البريدية في العالم الإسلامي قبل العصر الحديث، وقد كان للبريد في ذلك الوقت وظائف ومفاهيم مختلفة عن أنظمة البريد الحديثة، فقد كانت منظومة البريد أسرع وأهم وسيلة اتصال ونقل، يمتد عملها إلى المهمات الدبلوماسية والأمنية والاستخبارية، وكان البريد مؤسسات حكومية تحجب خدماتها حتى عن أغنى الأغنياء من غير الرسميين، وكانت الرسائل غير الرسمية تنقل عبر القوافل العابرة أو أنظمة بريدية خاصة ومحدودة.
وبدأ البريد يدخل في مرحلة من الخصخصة بدءا بالقرن الـ 16، ثم أسهمت تقنيات الاتصال الحديثة (أجهزة البرق والتلغراف) في تحولات كبرى وجذرية في أنظمة البريد وخدماتها، وأصبحت ما نعرفه اليوم (قبل الإنترنت).
وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء تتناول مسار النظم البريدية التي طبقت في العالم الإسلامي قبل العصر الحديث مبتدئا بعصر ما قبل الإسلام، في الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية وشبه الجزيرة العربية، ثم العصر الأموي فالعصر العباسي والدول الإسلامية في ذلك العصر مثل الفاطميين والغزنويين، ثم الأنظمة البريدية في الدول المغولية والمملوكية.
ويعمل المؤلف سيلفر شتاين باحثا ومحاضرا في دراسات الشرق الأوسط في جامعة أكسفورد، وهو متخصص بالثقافة والحضارة في الشرق الأدنى منذ القدم وفي العصور الإسلامية قبل الحديثة، وتركز أبحاثه على التفاعل بين الإسلام والديانات الأخرى، وبين موروثات هذه الديانات والشرق الأدنى المحلية.
وقد شابت ترجمة الكتاب وتحريره أخطاء كثيرة في التحرير وضبط الكلمات وفي اللغة والإملاء، وهي أخطاء يفترض عدم وقوعها في إصدارات مؤسسة مهمة ورائدة مثل هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.

النظم البريدية قبل الإسلام
كان البريد يقوم أساسا على رسائل بين الخليفة وولاته، وكانت رسائل الخليفة تحتوي عموما على أوامر رسمية ومراسيم، بينما ضمت رسائل الولايات تقارير عن شؤون الولاية الداخلية، وينسب مفهوم البريد إلى الفرس، حيث وضع ملوكها نظام البريد وخصصوا له دواب مميزة ومعروفة بعلامات محددة. وأنشأ اليونان في القرن السادس قبل الميلاد نظاما بريديا متقدما ومعقدا قائما على أساس الطاقة القصوى للخيل والخيالة أن تتحرك بسرعة، فأقيمت محطات وفقا لذلك يجري فيها استقبال الخيل والفرسان، ليتحرك على الفور فارس جديد يكمل الرحلة، وكانت هذه المواكب من السعاة والرسل لا تتوقف في الليل أو النهار.
ويظهر في التوراة "العهد القديم" أخبار وقصص عن البريد الفارسي والرسل والرسائل التي كانت تنقل ومعها الأخبار والمراسيم "أرسلت الكتابات بين السعاة إلى كل بلدان الملك لإهلاك وقتل" والقديم أخبار وقصص عن البريد الفارسي والرسل والرسائل التي كانت تنقل ومعها الأخبار والمراسيم، مثل "أرسلت الكتابات بين السعاة إلى كل بلدان الملك لإهلاك وقتل وإبادة جميع اليهود" و"خرج البريد ركاب الجياد والبغال وأمر الملك يحثهم ويعجلهم، وأعطي الأمر في شوشن القصر" (يمكن استحضار الآية القرآنية "وجعلها بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأياما آمنين").
وأقيمت على الطرق محطات خاصة بالبريد، تحوي استراحات، وقدر فيها السير والمراحل والمسافات والوقت، وفي أحيان كثيرة كانت طرق خاصة بسعاة البريد تختصر المسافات والأوقات، وقدر معدل المسافة اليومية التي يقطعها سعاة البريد بـ 300 كيلومتر، وقد تزيد عن ذلك أو تنقص حسب الطبيعة الجغرافية والتضاريس المحيطة بالطرق، واعتمدت فعالية النظام البريدي على مستوى الأمان في الطرق، وذلك يرتبط بمستوى العدل والقوة لدى الحاكم، وكان على الطرق حراس ومراقبون، وإدارات للإمداد والمؤونة، ومخصصات للسعاة وخيولهم من الطعام والشراب، وتضمنت الوظائف والأعمال المرتبطة بالبريد كثيرا من العمل الدبلوماسي والجاسوسية والحكمة والأدلة والحماية والأخبار والاستطلاع.
وفي الإمبراطورية البيزنطية أدخل نظام النقل النهري والبحري في البريد، وكان هذا النظام البريدي أساسا للبريد الأموي فيما بعد، وتشير مصادر التراث العربي إلى أنظمة رسائل وبريد كانت متبعة في الجزيرة العربية، مثل رسائل النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحكام والقادة، ورسالة مسيلمة إلى الرسول محمد ـــ صلى الله عليه وسلم، والرسائل المتبادلة بين الخلفاء والقادة العسكريين في فترة المعارك والفتوح وما بعد ذلك، وتشير النقوش على سد مأرب إلى الأخبار والرسائل التي كان ينقلها السعاة، وهناك إشارات عدة في الشعر العربي القديم إلى البريد، يقول امرؤ القيس:

ونادمت قيصر في ملكه
فأوجهني وركبت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكة
سبقت الفرانق سبقا بعيدا

النظام البريدي الإسلامي ــــ البدايات
يذكر العمري الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي أن أول من وضع البريد في الإسلام هو معاوية بن أبي سفيان، حيث وضع البريد لتسرع إليه أخبار بلاده من جميع أطرافها، فأمر بإحضار رجال من دهاقين الفرس وأهل أعمال الروم، وعرفهم بما يريد، فوضعوا له البرد، واتخذوا بغالا كان عليها سفر البريد، ثم توقف البريد مع انتهاء الدولة الأموية، حتى أعاده هارون الرشيد، ورتبه على ما كان عليه أيام بني أمية، ولكن ثمة إشارات ومصادر إلى بريد قوي ومهم في عهد المنصور، الذي كان يعتمد البريد أهم دعامة للدولة، وصاحب البريد هو الرقيب على العمال والولاة.
ويصف ابن خردذابة في كتابه "المسالك والممالك" سكك البريد في المملكة ويقول إنها 139 سكة، ونفقات الدواب وأثمانها وأرزاق البنادرة والفرانيق... وكان أصحاب البريد يوصلون الأخبار إلى الخليفة، ويعدون التقارير المفصلة لتقديمها إلى السلطات المركزية، ويذكر الطبري أن ولاة البريد في الآفاق كلها كانوا يكتبون إلى المنصور أيام خلافته في كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدم، وبسعر كل مأكول وبكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم، وبما يعمل به الوالي، وبما يرد بيت المال من المال، وكل ما حدث، وكانوا إذا صلوا المغرب يكتبون إليه بما كان في كل ليلة، وإذا صلوا الغداة، فإذا وردت كتبهم نظر فيها، فإذا رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها عن حاله كتب إلى الوالي والعامل هناك، وسأل عن العلة التي نقلت ذاك عن سعره.
وكان موظفو البريد هدفا أساسيا للثوار على السلطة، باعتبار البريد رمزا للسلطة يجب أن يستهدفه الاحتجاح رمزيا، وباعتباره أيضا يرمز إلى استقرار وقوة النظام السياسي، وسيكون الاعتداء عليه انتقاصا من هيبة السلطة، ولإظهار السلطة كيانا ضعيفا غير قادر على حماية نفسه، وكان البريد في المقابل كمؤسسة ينجح غالبا في الصمود في وجه التحديات التي يفرضها الثوار، ونجح في اعتقال الثوار والمطلوبين ونقلهم وتسليمهم إلى السلطة.
وهكذا فقد تطور البريد على يد المسلمين في وظائفه وهيكله، ورافق في تطوره وعمله تطور الحضارة العربية والإسلامية، وقد بدأ الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك في تخصيص مبالغ طائلة من بيت المال للاستثمار في البريد وتطوير أعماله وطرقه ومحطاته وموظفيه، وأدخل الممارسات المكتبية في إدارة البريد وتنظيمه، وأحدث أنظمة لتطوير وتهيئة دواب أكثر سرعة وكفاءة لاستخدام البريد (الخيول المضمرة والمحسنة السلالة)، ودعم البريد بشبكة من "العيون والآذان والعسس" الذين يعدون الأخبار والتقارير ويزودون بها مركز السلطة، ويفسر انهيار الدولة الأموية بانهيار البريد عندما فقدت السلطة مصادرها وأخبار ما يدور في أنحاء الدولة الواسعة والمترامية الأطراف.

ديوان البريد
تطور البريد في العصر العباسي الأوسط على يد الخليفة المتوكل، الذي ينسب إليه إنشاء ديوان البريد، والذي أنفق مبالغ ضخمة على إدارة البريد، وقد أسهم انتشار الورق وصناعته في تطوير الأنظمة البريدية والسجلات والوثائق، وفي سياق تطور الكتابة والتأليف، فقد كتب عن البريد في هذه المرحلة عدد كبير من العلماء والقضاة والمؤرخين والرحالة والجغرافيين. وارتبطت بالبريد شبكات الطرق والجسور والآبار والمحطات والنزل ومشكلات الطبيعة والجغرافيا من الطقس والجبال والصحارى، وأعمال الثورة والتمرد وقطع الطرق، وبخاصة أن البريد كان ينقل الأموال والأخبار، وواجه البريد باعتباره جزءا من حركة الطرق والقوافل، الاعتداءات المتكررة من البدو، وكانت الطرق نفسها هدفا للثوار والمخربين، ويلاحظ أيضا أن ازدهار البريد رافق ازدهار جميع الأعمال والأنشطة التي تعتمد على الطرق، مثل التجارة والحج والرحلات العلمية، وقد استفادت الحركة العلمية والتجارية من خدمات البريد في البنى التحتية والخرائط والإرشادات والخبرات الملاحية التي أنشأها النظام البريدي، وصارت أعمال البريد وخدماته والطرق في الإنتاج الفكري جزءا من أعمال الخليفة والولاة والقادة العسكريين ومسؤولياتهم. وفصلت المصادر والكتب في هذه المرحلة عن أعمال إدارات البريد والقادة السياسيين والعسكريين في صيانة الطرق والمرافق وحمايتها وتأمين الإمداد والكتابة للسلطان في كل الأوقات، والعناية بدواب البريد.. ووصفت مسؤوليات صاحب ديوان البريد وصفا دقيقا، فقد كان يتوقع منه جمع التقارير الواردة من البلدان، وأن يعرض محتواها بإسهاب أو إيجاز للخليفة، وهو مسؤول تماما عن توظيف المسؤولين المختلفين العاملين في البريد أيضا، بدءا بأصحاب السكك إلى مرشدي السعاة، والسعاة أنفسهم، وإعداد الخرائط للطرق، ويوقع صاحب البريد أو الموظف على كل بعثة تصله أو تمر بطريقه، ويسجل الوقت الذي وصلت فيه والوقت الذي أرسلت فيه. ويجب أن يشرف أصحاب البريد على المعلومات وتنظيمها، والسكك، والفرانقة والبنادرة، وعلف الدواب وتجهيزاتها، وأعمال النسخ والتوثيق، وأن يكونوا ثقاة أمناء، ويكون صاحب البريد العام أحد المقربين من الخليفة باعتباره شخصية بالغة الأهمية. وتطور الديوان البريدي إلى وزارة ومؤسسات منظمة، وأوقفت عمليات السخرة والتسلط التي كان يمارسها سعاة البريد على الناس والمسافرين، وقد يكون برأي المؤلف لتطوير نظام البريد والطرق أثر في نجاح الثورات على الحكم والسلاطين، فقد أصبحت الطرق سالكة بالنسبة للثوار والغزاة والمتمردين إلى العواصم والمدن، وقد استفاد منها بالفعل البويهيون ثم السلاجقة في غزو بغداد. وهكذا فقد أسس المتوكل لنظام بريد مؤسس على أفضل أنظمة الاتصالات، وشبكة موظفين، وميزانية تدعم النظام، ولكنه (البريد) أصبح جزءا من السلطة يعتمد في بقائه وازدهاره عليها، ولذلك فقد تعرض للانهيار والضعف تبعا لحالة السلطة المركزية في بغداد، وقد أدت ثورات الزنج والقرامطة إلى انقطاع الطرق في العراق وشبه الجزيرة العربية، وقد أسس ذلك لتعديلات على البريد، مثل الحمام وأصحاب الأخبار، وظهرت أيضا شبكات بريد التجار.
وقد لعب التجار أنفسهم بطبيعة عملهم وتجوالهم دورا بريديا، ثم أصبحت أعمالهم التجارية بحاجة إلى شبكة بريدية، وفي أحيان كثيرة كان الجواسيس يتخفون في مظهر التجار للاطلاع على الأخبار والمعلومات لدى الأعداء عن كثب، وربما تكون شبكة بريد التجار قد أسست للنظام البريدي التجاري.
وبدأت مصطلحات البريد تستخدم في الاستعارات اللغوية والفلسفية للعلماء، فالفارابي في القرن العاشر الميلادي يصف القوة الحاسة كأنها هي الملك الذي تجتمع عنده أخبار نواحي مملكته من أصحاب أخباره، وفي رسائل إخوان الصفا في تلك الفترة أيضا "فتجتمع آثار المحسوسات كلها عند القوة المتخيلة، كما تجتمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة، فيوصل تلك الرسائل كلها إلى حضرة الملك".
ويشار إلى نظام البريد المغولي باليام، وقد أنشأه جنكيز خان أهم قائد مغولي، والمؤسس للدولة المغولية، وكان يقوم على مجموعة تشكيلات من المبعوثين الذين هم في حالة ارتحال دائم، وهو نظام يتفق مع الطبيعة البدوية الارتحالية للمغول، وكان هؤلاء المبعوثون يتمتعون بصفة دبلوماسية، ولديهم تفويض كامل من جنكيز خان ثم القادة الذين جاءوا من بعده باعتبارهم ممثلين للقائد يتصرفون بالنيابة عنه، ثم تطور نظام البريد إلى تجاري وإداري مشترك، واستخدم في هذا النظام السعاة العداءون الذين يسلمون الرسائل والأخبار إلى آخرين في شبكة تشبه نظام الشعلة الرياضي، ويعتبر البريد المغولي أضخم نظام بريدي في التاريخ قبل العصر الحديث. واقتبس المماليك النظام المغولي مع استيعابهم للنظام البريدي الذي كان قائما في مصر والشام والعراق والجزيرة، وقد وصف نظام البريدي المملوكي وصفا شاملا ومهما على يد ابن فضل الله العمري ثم القلقشندي في "صبح الأعشى"، والمقريزي. وينسب تأسيس نظام البريد المملوكي إلى الظاهر بيبرس الذي أوصى عماله بأن يرسلوا له كل يوم مرتين، وربما فرض الصراع مع المغول والصليبيين وجود نظام بريدي متواصل وسريع، ولذلك فقد اعتمدوا في الأخبار العسكرية بخاصة على الحمام الزاجل والإشارات الضوئية (المناور)، وكان البريد مؤسسة عسكرية محضة، ثم تعرض البريد للانهيار باحتلال تيمورلنك لبلاد الشام، وبسبب النزاع المملوكي الداخلي.

البريد كنظام إداري وتجاري
يخلص المؤلف في نهاية الكتاب إلى مجموعة من النتائج يمكن إجمالها بأن النظم البريدية في العصر قبل الحديث كانت على علاقة معقدة بالسلطة السياسية، فقد كان البريد أداة اتصال وحكم مهمة، وأسهم في جمع الأخبار وملاحقة المتمردين ومواجهة الغزاة، إضافة إلى دورها التنموي والقضائي، وكان البريد هدفا أساسيا للغزاة والثوار باعتباره أهم مرفق للسلطة.
وتميزت أنظمة البريد الإسلامية بتمويلها الحميد البعيد عن السخرة والسلطة على أملاك الناس الخاصة، وتحولها إلى مؤسسة (ديوان) لها أنظمتها المالية والإدارية الخاصة بها، واستفاد النظام البريدي الإسلامي من الأنظمة السابقة في الحضارات الفارسية والبيزنطية والصينية، إضافة إلى ما كان يملكه العرب واستخدموه في الجزيرة العربية. وقد اقترن البريد أيضا بعمليات الفتوحات والمعارك، وكان له دور عسكري مميز، حتى إن البريد تحول في عهد الماليك إلى مؤسسة عسكرية، وأقيمت لأجله مرافق وبنى وتقنيات كثيرة ومتعددة، مثل الجسور والمحطات والنزل وعمليات الصيانة والإمداد، كما استخدم الحمام الزاجل والإشارات الضوئية لأجل البريد السريع وخاصة الأخبار العسكرية، وبحلول القرن الـ 19 تحولت كل هذه الأنظمة البريدية إلى تاريخ وتراث بعيد، فقد أنشأت الثورة الصناعية الأوروبية أنظمة بريد واتصالات مختلفة كليا عن النظام البريدي الراسخ في التاريخ والتجارب الإنسانية لقرون طويلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي